عاش العراق والعراقيون اوضاعا صعبة منذ 2003 على الصعيدين السياسي والاقتصادي، اذ كان هدف سلطة الائتلاف المؤقت الحاكمة على الصعيد الاقتصادي التحول نحو اقتصاد السوق، ولكنه واجه تحديات كبيرة، اوضحها مظهر محمد صالح المستشار والخبير الاقتصادي لرئيس الوزراء حيد العبادي، وكان اولها واهمها الارهاب الذي شكل اكبر تحد للدولة العراقية، والتحدي الاخر هو الازمة المالية، بسبب الاقتصاد الريعي للعراق الذي يعتمد في موازنته على النفط بـنسبة 93% ، وهذا بحد ذاته يشكل تحديا ، مما يضع البلد في حالة انذار وحالة استثنائية ، حيث ان هبوط النفط من 105 دولارات للبرميل في نهاية 2013 – بداية 2014 ، الى مستوى 30 دولارا، يعني ان العراق يفقد 65 % من قيمة عائداته.
صالح يؤكد ان الوضع المالي مازال صعبا وتتمثل الصعوبة بـما يلي:
– ضعف التدفقات النقدية؛ بسبب قلة التحصيل ، وقلة موارد النفط.
– ضعف النظام الضريبي بالعراق الذي “يتمتع بعطلة ضريبية”.
– النظام النقدي العراقي كان يعتمد على ما يسمى بالتغطية الجزئية، وبالتالي فان الموجودات الاجنبية تشكل كسرا بسيطا من التكلفة النقدية المصدر بالدينار العراقي ، فيما اعتمد النظام النقدي بعد 2003 على ان كل الدينار العراقي مغطى بالعملة الاجنبية بنسبة مرة ونصف المرة ، وبالتالي فهو بحد ذاته عملة صعبة؛ اي من يحصل على الدينار او الدولار هي مسألة متعادلة ، وتبقى المشكلة بقيمة الدينار العراقي ، اذ مازال البنك المركزي يدافع عنها في ظروف طبيعية لأسباب :
– الاحتياطات تدافع عن قيمة الدينار من قبل مجلس ادارة البنك المركزي ، وهو الجهة الوحيدة التي تحافظ على قيمة الدينار بوجود خطوط معينة لا يمكن تجاوزها .
– القوة الشرائية للدينار مرتبطة بالقوة الشرائية للدخل، فأي قطع او حسم على الدخول يؤثر بشكل مباشر على قوته الشرائية.
وبسبب ريعية الاقتصاد، واعتماد القطاع الخاص على موارد العملة الاجنبية في الدولة، وقلة صادرات العراق؛ تحول المجتمع العراقي الى مجتمع استهلاكي ، اذ لا يوجد قطاع خاص منتج ، وارقام الاستيرادات من السلع الاستهلاكية ضخمة جدا ، وهنا يجب الحفاظ على استقرار قيمة العملة ، وهذا مرهون بتدفقات العملة .
احتياطات البنك المركزي من العملة
اكد صالح ان البنك المركز العراقي يشعر بالارتياح من احتياطاته ، والوضع مستقر، مشيرا الى ان “خطة الإنقاذ المالي” التي تراجع يوميا واسبوعيا وشهريا وفصليا من خلال اجتماع لمجلس الوزراء، تدقق وتفحص الوضع الاقتصادي ، وتفحص ايرادات الموازنة للمحافظة على الاستدامة المالية، ويجب ان تكون التدفقات تفي بالمتطلبات حسب اولويتها، وعلى راس ذلك محاربة الارهاب، ثم رواتب الموظفين فهناك
أكثر من 4 ملايين موظف حكومي و3.7 مليون متقاعد، يُضاف إليهم مليونا عراقي مسجلون، في إطار ما يُعرف بشبكة الإعانة الاجتماعية ويحصلون على مرتبات شهرية لانتشالهم من الفقر. وحسب نظام الاعالة فان كل واحد مسؤول عن اربعة اشخاص مما يعني ان كل الشعب العراقي يستلم رواتب من الدولة بشكل مباشر وغير مباشر.
وزارة التخطيط تدق ناقوس الخطر الذي بدأ يهدد جسم الدولة العراقية ومستقبل التنمية، في بلد تضطر حكومته إلى الاقتراض للعام الثالث على التوالي لتأمين 42 بليون دولار سنوياً لتغطية موازنتها التشغيلية. التي تشمل الموازنات الفرعية الخاصة بإيرادات التشغيل ومصروفاته، والتي تعد خطة تفصيلية شاملة و أداة تخطيط رقابة ومعيار لتقييم الأداء، وتعمل الدولة العراقية من جهتها على دعم القطاع الخاص للعمل مجدداً في السوق المحلية، ويتطلب ذلك شرعنة عمله ليسهم بالتنمية الاقتصادية .
وتقول وزارة التخطيط ان «السلبية الوحيدة هنا تكمن في أننا من الدول الريعية التي تعتمد مورداً واحداً محكوماً بسوق عالمية، مما يجعلنا أمام خطر دائم».
وكشف صالح عن أن «استراتيجية الدولة الجديدة التي تُسمى 2030 تضمنت حلولاً كثيرة قادرة على التخلص من ملف اعتماد المواطنين في شكل كامل على الوظيفة في القطاع العام، والتوجه نحو القطاع الخاص مع ضمانات كافية تؤمن لهم العيش حتى لدى ترك العمل أو التقاعد».
وتعتمد موازنة 2018 على التعزيز المالي من خلال خفض العجز وتراكم الديون ، عن طريق خفض النفقات غير الضرورية ، ويتزامن ذلك مع تشديد رئيس الوزراء العراقي ، حيدر العبادي على خفض النفقات التشغيلية للرئاسات الثلاثة ، وهذه اشارة كبيرة للعبادي لبدء الاصلاح من الهرم ، للحفاظ على الاستدامة المالية .
ويؤكد صالح وجود قطاعيين مهمين يكلفان ميزانية الدول رقما صعبا ، ولكنهما قابلين لتعظيم مواردهما، وهما قطاعا الجمارك والكهرباء ، وذلك باستمرار الحكومة في تفعيل القوانين والأنظمة الخاصة بالضرائب والجباية الإلكترونية وحماية المستهلك .
وبين صالح أن «عام 2018 سيشهد افتتاح مجلس السوق الذي يضم ممثلين عن القطاعين العام والخاص للوصول الى اقتصاد السوق، بدلاً التذبذب بين اقتصادين مختلفين، هما الاشتراكي والحرّ».
وطالبت نائب رئيس لجنة الاقتصاد والاستثمار البرلمانية نورة البجاري بتطوير القطاع الخاص وتشريع القوانين لحماية العاملين فيه و «بدء تطبيق الخطة التنموية الخمسية فعليا ».
وقالت ان «الجسم الوظيفي يعاني الآن الترهل ووصل إلى حدّ الإشباع والانفجار، إذ لا توجد دولة توظف ثلث سكانها في القطاع الحكومي ويفكر فيها الفرد أنه عاطل من العمل إذا لم يجد وظيفة حكومية، ولو كانت توجد قوانين تحميه في القطاع الخاص وتمنحه ذات الامتيازات التي يحصل عليها في القطاع العام، لما طلب الوظيفة الحكومية».
واضافت « لقد حان الوقت لتغيير ثقافة الوظيفة الحكومية وتشريع قانون الضمان الاجتماعي الذي يضمن للعاملين في القطاع الحكومي راتباً تقاعدياً، وسنصل قريباً إلى المساواة بين الوظيفتين، لكن الأهم طريقة تطوير القطاع الخاص الذي لا يزال متردداً في العمل محلياً، كما أن عدد الفرص التشغيلية لا تزال دون المستوى المطلوب»
وعن القطاع الخاص قال ممثله إسماعيل عبد الحسين الذي كان يشغل منصب وكيل وزير العمل والشؤون الاجتماعية: «وضعنا مع خبراء دراسة من شأنها إنهاء توجه الشباب نحو الوظائف الحكومية وتحولهم إلى القطاع الخاص، ونحن حالياً في طور عقد سلسلة من الاجتماعات مع مسؤولي مختلف الوزارات ومجلس النواب، لتشريع قانون يسمح لنا بالعمل ضمن القانون على توجه جديد طبق في عدد من الدول ونجح بشكل كبير». وأوضح أن الخطة تنص على «تأسيس هيئة أو أي مسمى آخر لتشغيل العاطلين من العمل عبر عمليات إقراض جماعية، أي مثلاً كل 50 شاباً يمنحون قرضاً ويؤسسون شركة تكون تحت إشراف المطور الذي أقر في قانون الاستثمار والذي عليه تحديد دراسة الجدوى بتفاصيلها كافة».
ولفت عبد الحسين إلى أن «الشركات العامة أثبتت فشلها، لكن في حال تأسيس شركات خاصة فستكون ناجحة، لأنها تعتمد أسس الربح والخسارة وليس راتبا مضمونا نهاية كل شهر سواء عملت أم لا». وخلُص إلى أن «جميع الشباب يحصلون على قرض لمشروعهم لا تتجاوز مدته 7 سنوات، ويجب أن يكون ضمن دراسة الجدوى للمشروع تسديد القرض خلال هذه المدة.
أما فائدة المطور الذي يعدّ دراسة الجدوى وتصاميم المشروع، فيجب أن يوضع نسبة لا تتجاوز 15 في المئة من رأس المال للمشروع، على أن يكون تسديد مبلغ المطور من خلال أرباح المشروع وخلال مدة القرض».
القطاع الخاص
تتجه جميع الانظار نحو القطاع الخاص ودوره في تغيير النظام الاقتصادي العراقي ليسهم في النمو والاستقرار الاقتصادي، وتنوع موارد البلد، والخروج من الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد المتنوع اي تعظيم الايرادات غير النفطية ، وفي هذا السياق انشأت الكثير من المؤسسات واتخذت جملة من الاجراءات والبرامج لأجل التحول نحو القطاع الخاص والتصفية التدريجية لمنشآت القطاع العام دون الاضرار بالقوى العاملة فيه عبر زجهم في مشاريع متوسطة وصغيرة تلقى الدعم الحكومي.
الا ان معظم هذه البرامج بقيت حبرا على ورق نظرا لعدم واقعيتها كونها كانت وصفات جاهزة للتحول نحو القطاع الخاص بعيدة عن الواقع الاقتصادي في العراق ومتطلباته، اضافة الى بيروقراطية الدولة التي تعوق التنمية.
وخير مثال على نجاح القطاع الخاص في العراق ما قامت به مجموعة ماس القابضة بانشاء اربع محطات لانتاج الكهرباء، ومصانع لانتاج الاسمنت وصهر الحديد.
وقال المستشار الاقتصادي والمصرفي سمير النصيري: من اجل تعزيز دور القطاع الخاص لابد ان تتولى الحكومة بالدرجة الأولى تأسيس مجلس اعلى للقطاع الخاص يتشكل من ممثلين للقطاع الخاص والحكومة ويتولى الإدارة والاشراف والمراجعة والتقييم للبرامج والسياسات الموضوعة لصناعة القرارات المطلوبة لتحقيق الاهداف الاقتصادية المركزية بالمشاركة والتعاون بين القطاعين الخاص والعام.
وهذا يعني إشراك القطاع الخاص بدور أكبر في صناعة القرار الاقتصادي وقيادة السوق من خلال ما يلي:
* تحسين بيئة الأعمال في العراق وتوفير المناخ الاستثماري المشجع لجذب رؤوس الاموال الوطنية والأجنبية وتشجيع تحقيق الشراكات بين القطاع العام والخاص.
* العمل على تهيئة بيئة تشريعية جديدة تستند في مرجعيتها إلى المادة (25) من الدستور الدائم والاستراتيجيات والقوانين الخاصة بالإصلاح الاقتصادي وتطوير القطاع الخاص بما يضمن تفعيله وقيادته للسوق مستقبلاً.
* إدامة الشراكة والحوار والتعاون وتفعيلها بين القطاعين الخاص والحكومي.
* وضع السياسات والآليات والاستراتيجيات في متابعة تنفيذها لحسم الانتقال إلى مراحل مبرمجة زمنياً إلى اقتصاد السوق.
* العمل على توفير مصادر تمويل اضافية للموازنة العامة للدولة باعتماد تنمية الموارد وتنويعها باتجاه رفع نسبة الموارد الأخرى غير النفط في الناتج المحلي الإجمالي.
* التعاون لضمان تنفيذ الخطط المركزية في توفير البنى التحتية لتشجيع وتطوير القطاع الخاص في الصناعة والتجارة والزراعة والسياحة والثروات المعدنية والطاقة والخدمات، وتطوير المشاريع الصغيرة والمتوسطة ، بمايحقق التنمية الشاملة والمستدامة
* تفعيل دور المصارف المتخصصة والمصارف الخاصة لتوفير القروض الميسرة للقطاع الخاص الوطني .
* التنسيق والتعاون مع الوزارات والمؤسسات المالية والاحصائية المعنية ببناء قاعدة معلومات مالية واحصائية وضمان شفافيتها.
* المشاركة الفاعلة مع الحكومة في تنفيذ إجراءات إعادة هيكلة الشركات العامة وتسهيل الشراكات مع القطاع الخاص، والاسهام في ضمان معايير الجودة للمنتجات والخدمات المحلية والمستوردة.
* تشجيع المصارف الخاصة على الاستثمار في المشاريع الاقتصادية بما يعزز نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي والإسراع بالتعديلات التشريعية لتحقيق هذا الهدف.
العراق في 2030
إن مشروع خطة التنمية الوطنية للأعوام (2018 – 2022) سيقود الى نظام ديمقراطي للاقتصاد السياسي للعراق يقترب من مفهوم (الدولة – السوق / الاجتماعية) والذي سيقود لامحالة الى ولادة الظروف الموضوعية في بلوغ غايات نظام السوق الاجتماعي بأركانه الثلاثة:
الاول: خلق السوق: اي توليد انماط من الملكية المؤسسية التي تقوم على نظام الشركات وتسهيل تسجيلها واجازتها عبر تبسيط الاجراءات كسياسة عامة تتجه نحو تحسين مناخ الاعمال.
الثاني: تمويل السوق: عبر توجيه موارد الريع النفطي وتحويلها الى طاقات اقراضية ميسرة لقوى السوق المنتج (صناديق الاقراض الممولة من المورد السيادي ومثال ذلك برنامج اقراض 5 تريليونات دينار الى القطاع الخاص من البنك المركزي العراقي).
الثالث والاخير: حماية السوق: بصندوق التقاعد الوطني الموحد للدولة والقطاع الخاص، وهكذا ستتولى الدولة ضمان وحماية التنافسية ومنع الاحتكار واشاعة دولة الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال إشاعة كفاءة الانتاج وعدالة التوزيع للدخول والثروات وهي البنية الفلسفية التي تؤازر ديمومة السوق / الاجتماعي، وهذا ما اكده صالح لبناء الاقتصاد الوطني المتنوع وفق استراتيجية تطوير القطاع الخاص حتى العام 2030(*).
(*) المستشار المالي والاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي هذا ما نشر على شبكة الاقتصاديين العراقيين في سبتمبر 2017
شذى خليل باحثة في
الوحدة الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية