يراهن المتطرفون دوما على التحريض الطائفي ومهاجمة الأقليات وتهديد السلم الاجتماعي لنشر الفوضى والتفرقة بين المواطنين حتى يتمكنوا من بسط نفوذهم، وفي العراق استهدف هؤلاء الطائفة المسيحية منذ الغزو الأميركي للبلد عام 2003. لكن تزايدت معاناة المسيحيين منذ بروز تنظيم الدولة الإسلامية، فعانوا من ويلات الحرب والاضطهاد والتهجير والعنف، وقرر عدد كبير منهم الفرار إلى الأردن ودول غربية، ورغم إعلان الحكومة العراقية تحرير البلاد من داعش في الآونة الأخيرة، إلا أن مسيحيي العراق يتمسكون بأرض الشتات ويفضلون حياة بعيدة عن بطش الحرب، حيث فقدوا الأمل في العودة وفقدوا الشعور بالأمان، الأمر الذي ينبئ بتقلص الوجود المسيحي في المنطقة.
لم يستثن إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية منذ ظهوره بالعراق في أبريل عام 2013 الأقليات كالطائفة المسيحية، بل استهدفهم محرضا على الفتنة لاغيا تاريخا من التعايش في البلد، فتوقفت أجراس الكنائس والصلوات في أكثر من مناسبة عند كل هجوم إرهابي.
ورغم إعلان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في أوائل ديسمبر الجاري، عن الانتهاء من تحرير آخر معاقل تنظيم داعش في العراق، موجها رسالة طمأنة إلى العراقيين بمختلف طوائفهم قائلا “معركتنا كانت مع العدو الذي أراد أن يقتل حضاراتنا، ولكننا انتصرنا بوحدتنا وعزيمتنا، وفي فترة وجيزة استطعنا هزيمة داعش”. إلا أن هذا الإقرار لا يبدو كافيا لترميم آلام مسيحيي العراق الذين هاجروا من وطنهم إلى أرض الشتات هربا من بطش التنظيم.
ورغم إحياء بلدة قرقوش المسيحية في شمال العراق عيد “الحبل بلا دنس” لأول مرة منذ أربع سنوات، في الأسبوع الماضي، وذلك بقداس أقيم في كنيسة الطاهرة الكبرى (سيدة الحبل بلا دنس) التي عاث فيها تنظيم داعش خرابا، فإن مسيحيي العراق لا يرغبون في العودة.
وفي مدرسة أردنية تستضيف لاجئين عراقيين مسيحيين بشرق عمّان، يحلم عراقيون بغد أفضل لكن بعيدا عن العراق، أرض أجدادهم حيث فقدوا كل شيء ولم يعودوا يشعرون بالأمان.
تقول ولاء (40 عاما)، وهي تحضن ابنها التلميذ في المدرسة التي زارها قبل أيام السفير الفرنسي في الأردن بمناسبة الإعلان عن هبة فرنسية “لقد فقدنا كل شيء، بيوتنا سرقت ونهبت ودمرت وأحرقت، لم يبق لنا شيء هناك كي نعود من أجله”.
وولاء لويس واحدة من آلاف العراقيين المسيحيين الذين نزحوا إلى الأردن من ناحية برطلة قرب الموصل بعد أن سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية في 2014. وهرب الآلاف من المسيحيين آنذاك من الموصل إلى دول عدة من بينها الأردن، بعد أن سيطر داعش على المدينة.
ضحايا العنف الديني
على الرغم من استعادة القوات الحكومية العراقية للمنطقة، إلا أن ولاء لا تفكر في العودة إلى بلدها بعد أن أحرق تنظيم الدولة الإسلامية منزلها وكل ما تملكه في العراق، وكذلك بسبب شعورها بعدم الأمان.
وفرض الجهاديون على المسيحيين عند سيطرتهم على المنطقة، إما اعتناق الإسلام وإما دفع الجزية أو النفي أو الموت.
وبحسب الأب رفعت بدر مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام فإن “نحو عشرة آلاف و300 مسيحي عراقي فروا إلى الأردن منذ الهجوم الذي شنه داعش على مناطق الموصل وسهل نينوى، بشمال العراق.
10 آلاف و300 مسيحي عراقي فروا إلى الأردن منذ سيطرة داعش على الموصل
وحضرت ولاء مع غيرها من عشرات الأهالي من مسيحيي العراق الذين فرّ أغلبهم من الموصل والبلدات المسيحية المحيطة، مساء الثلاثاء الماضي، إلى كنيسة اللاتين في ماركا بشرق العاصمة الأردنية حيث يدرس أبناؤهم في المدرسة التابعة للكنيسة.
وأعلن يومها عن تمويل مقدّم من صندوق دعم وزارة الخارجية الفرنسية المخصص لضحايا العنف العرقي والديني في الشرق الأوسط، قيمته 120 ألف يورو لمساعدة المدرسة على الاستمرار في أعمالها لسنة دراسية كاملة.
ووسط قاعة الاحتفال، وُضعت شجرة كبيرة مزينة لعيد الميلاد. وأدّى أطفال المدرسة الذين علقوا جميعهم على صدورهم صلبانا خشبية كبيرة في بداية الاحتفال، النشيد الوطني العراقي “موطني موطني، الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباك في رباك”.
وقال السفير الفرنسي في عمّان دافيد بيرتولوتي “التعليم ضروري لهؤلاء الأطفال الذين اضطروا إلى الفرار من بلدهم”، مشيرا إلى أنهم “كانوا ضحايا للعنف والاضطهاد من جماعة متطرفة أجبرتهم على الفرار”.
وأضاف “أشعر بالسعادة لرؤيتهم هنا في هذه المدرسة، سعداء مع الناس الذين يعتنون بهم والذين منحوهم الكثير من الاهتمام والحب”.
وتروي ولاء أنها جاءت إلى الأردن في أغسطس من العام الحالي، وقدمت طلب لجوء لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة من أجل إعادة توطينها “في أيّ بلد يكون آمنا من أجل مستقبل أطفالي الثلاثة”.
وتتذكر ولاء بحسرة الظروف الصعبة التي مرّت بها مع عائلتها التي نامت لأيام عدّة في الحدائق العامة والكنائس في أربيل.
يقول عدد من اللاجئين المسيحيين إنهم يريدون المغادرة إلى أوروبا وكندا وأستراليا والولايات المتحدة.
مسيحيو العراق يتمسكون بأرض الشتات ويفضلون حياة بعيدة عن بطش الحرب
وتؤكد ولاء التي كان زوجها يملك محلا لإصلاح السيارات في بلدتها أنها تعاني من أمراض القلب وضغط الدم، وأنها تعاني الأمرّين بالأردن بسبب الحاجة المادية.
وتقول “صرفنا كل ما نملك ولم نستلم دينارا واحدا من أيّ جهة، حتى أنني صرت لا أملك المال كي أقابل طبيبا أو أشتري هدية لأطفالي بمناسبة عيد الميلاد”. ثم ترفع يديها إلى السماء وهي تردد “الله وحده يعلم بحالنا”.
تدريس مجاني
ردد الطلاب الذين وقفوا في صفوف متوازية لدى وصولهم إلى المدرسة الصلاة باللغة السريانية. وتقول مديرة مدرسة كنيسة اللاتين سناء بكي إن “المدرسة التابعة للكنيسة تستقبل نحو مئتي طالب من المسيحيين العراقيين الذين فرّوا من الموصل ومناطق سهل نينوى والذين تتراوح أعمارهم ما بين 6 و14 عاما، وقد فاتتهم سنة دراسية أو أكثر بسبب الحرب”.
وتضيف “الدراسة مسائية وباللغة الإنكليزية، لأن جميعهم لا يفكرون في العودة إلى العراق، وسبق لهم أن تقدموا بطلبات لجوء”، مشيرة إلى أن “المدرسة تعمل على تأهيلهم للمدارس التي سيلتحقون بها في دول اللجوء”.
وتتابع “يتم تدريسهم مجانا على أيدي مدرسات عراقيات متطوعات. كما يتم توفير الكتب والملابس ووجبات الطعام مجانا لهم”. لكنها تقول إنه ” ليس بالأمر السهل لأن أغلبهم تعرضوا لضغوط ومشاكل نفسية نظرا للمآسي التي مروا بها خلال السنوات القليلة الماضية”.
ويؤكد الأب خليل جعار، راعي كنيسة اللاتين بقوله “يقول المثل إذا أردت أن تدمّر أمة، فامحُ تاريخها وجهِّل أطفالها، لذلك علينا أن نعمل لكي يأخذ كل هؤلاء الأطفال حقهم في التعليم والحياة”.
ويتابع “عانينا من مشاكل مالية خلال الفترة الماضية، ولكن نحمد الله الآن بأننا حصلنا اليوم على أموال تكفينا للاستمرار في عملنا خلال السنة الدراسية الحالية”.
إذا أردت أن تدمر أمة، فامح تاريخها وجهل أطفالها، لذلك يكافح المسيحيون لكي يأخذ الأطفال حقهم في التعليم والحياة
وتحلم بان بنيامين يوسف (43 عاما)، وهي أم لأربعة أطفال، ببناء “حياة جديدة” مع عائلتها كما تقول، بعد المعاناة التي مرت بها في العراق. وتقول في تصريحات صحافية “بعد أن سرق ودمّر وحرق الدواعش منزلنا ومحل زوجي لبيع المواد الغذائية، قررنا حزم أمتعتنا والمجيء للأردن على أمل البدء بحياة جديدة”. وتروي “بعد اشتداد العنف الطائفي في عام 2006 وصلتنا تهديدات بالقتل فهربنا من بغداد إلى الموصل وهناك أيضا بعد أعوام وصلتنا تهديدات بالقتل فهربنا إلى قرية كلامليس المسيحية شمال الموصل حتى جاءنا الدواعش فهربنا إلى أربيل في صيف 2014”. وتضيف “ليس بإمكاننا العودة، مدننا مدمرة وفقدنا كل شيء. لا يوجد شيء نعود من أجله”.
ويشير متابعون إلى أن المتطرفين عمدوا طيلة أكثر من عقد إلى استهداف المسيحيين وغيرهم من الأقليات في العراق، وذلك بعد الغزو الأميركي للعراق، مما تسبب في فرار المئات من الآلاف، وقال الأب بشار وردة، رئيس أساقفة الكلدان الكاثوليك في أربيل، في تصريحات صحافية سابقة “منذ عام 2003، فقدنا قساوسة وكهنة وتم قصف أكثر من 60 كنيسة”.
فيما رصدت صحيفة نيويورك تايمز، في تحقيق موسع سابق، ما تعرض له المسيحيون في العراق من وحشية على يد داعش منذ سيطرته على الموصل في يونيو 2014، ثم توسعه ليمتد بين شرق سوريا وغرب العراق، مشيرة إلى أن “التنظيم الإرهابي يتطلع حاليا إلى القضاء تماما على المسيحيين والأقليات الأخرى في المنطقة”. وهو ما يتجلى في استهدافه للطائفة المسيحية في سيناء المصرية مؤخرا.
وقرعت الكنيستان الرئيسيتان في ألمانيا، الكاثوليكية والبروتستانتية، جرس الإنذار من تفاقم التضييق على الحريات الدينية في العالم.
وجاء في التقرير المشترك عن هذا الموضوع الذي طرحه ممثلون عن الكنيسة البروتستانتية ومؤتمر الأساقفة الكاثوليك الألمان الجمعة الماضي في برلين أن “عواقب إرهاب تنظيم داعش تهدد بانتهاء التواجد المسيحي في بعض الدول”.
وأشار التقرير إلى أن وضع المسيحيين في العراق سجل تناقصا لافتا وتراجعا في عددهم من نصف مليون عام 2013 إلى حوالي ربع مليون حاليا، وذلك بعد فرار الكثيرين منهم إلى خارج البلاد.
وبحسب رئيس مجلس الطائفة المسيحية العراقية في الأردن غازي رحو “لا يتجاوز عدد المسيحيين في العراق أكثر من 450 ألف مسيحي”، وأوضح رحو في تصريحات صحافية “نحو مليون مسيحي عراقي غادروا من المحافظات التي كانوا يسكنون فيها، قسم منهم يتواجد في إقليم كردستان وقسم منهم في بغداد وقسم قليل في كركوك، لكن القسم الأكبر غادر إلى الأردن ولبنان وتركيا”.