في تعليقه الرسمي على «استراتيجية الأمن القومي الأمريكي» للعام 2018، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إن «الأمة التي لا تحمي رخاءها في الداخل، لا تستطيع حماية مصالحها في الخارج. والأمة التي ليست مستعدة للانتصار في حرب، هي أمة ليست قادرة على منع حرب». وأضاف: «الأمة التي لا تفخر بتاريخها، لا يمكن أن تكون واثقة من مستقبلها. والأمة التي ليست متأكدة من قيمها، لا يمكن أن تستجمع إرادة الدفاع عنها».
ولكن هذه اللغة المثالية لم تكن تخفي حقيقة المضامين الفعلية المعاكسة التي تتخذها سياسات الولايات المتحدة، سواء في الداخل على أصعدة خيانة القيم الأمريكية ذاتها، وانتهاك الحقوق المدنية للمواطن والإخلال بالممارسة الديمقراطية، أو في السياسة الخارجية وحروب التدخل العسكري ومحاباة أنظمة الاستبداد والتخلف. كذلك فإن عبارات ترامب الفضفاضة لا تطمس وقائع السياسات التي تعتمدها الإدارة الراهنة وتتسبب في اختلال علاقة أمريكا مع العالم خارج المحيط، وفي عزلتها شبه التامة، كما في انفرادها مع إسرائيل في نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة.
والاستراتيجية الجديدة تقوم على أربعة أعمدة، هي حماية أرض الوطن، وتعزيز الرخاء الأمريكي، والحفاظ على السلام عبر القوة، وتوطيد المصالح الأمريكية. وعلى المستوى العملي، يعني العمود الأول فرض المزيد من إجراءات حظر السفر إلى أمريكا، وبناء أسوار عازلة مع الأمم الأخرى، وإعادة إحياء مفهوم «الحدود» بوصفه ركناً وقائياً ودفاعياً. والعمود الثاني سبق أن ترجمته الإدارة الجديدة في إطلاق حروب التبادل، أو إعادة النظر في اتفاقيات تنظيم التجارة الدولية، بالإضافة إلى تنشيط مبيعات الأسلحة بمليارات الدولارات.
العمود الثالث، ورغم أنه يسترجع عقيدة رونالد ريغان القديمة، فإنه يضيف إليها بعداً جديداً هو رفض إدراج اتفاقيات المناخ ضمن المخاطر التي تهدد السلام العالمي، وفي الآن ذاته إدراج حماية الاقتصاد الأمريكي ضمن العناصر الأولى والمرتكزات الكبرى للأمن القومي الأمريكي. وأما بصدد العمود الرابع، فإن تنويعات الحديث عن صيانة المصالح الحيوية للولايات المتحدة لا تكاد تغيب عن أي صفحة من الصفحات الـ68 لاستراتيجية 2018.
وحول الشرق الأوسط، ضمن باب «الاستراتيجية في سياق إقليمي»، يقول التقرير صراحة إن الولايات المتحدة تبحث عن شرق أوسط ليس مرتعاً للإرهابيين الجهاديين، ولا تهيمن عليه قوة معادية لأمريكا، ويسهم في سوق طاقة عالمي مستقر. لكن وقائع العقود الأخيرة تشهد أنّ أجهزة الاستخبارات المركزية، بترخيص مباشر من البيت الأبيض، هي التي كانت وراء هندسة «الصناعة الجهادية» في أفغانستان، والتي سوف تنطلق في مشارق الأرض ومغاربها بعد جلاء السوفييت. وأما إيران، التي تشير إليها الاستراتيجية الجديدة مراراً، فإنها لم تصبح قوة إقليمية مهيمنة إلا نتيجة الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003. ومعروفة، أخيراً، طبيعة السياسات النفطية التي ظلت واشنطن تمليها على السعودية، أو تفرض تطبيقها على العراق في ظل الاحتلال الأمريكي.
وإذا صح أن هذه الاستراتيجية الجديدة تهتدي بعقلية ترامب في كثير من مفاصلها، فالصحيح أيضاً أنها ليست طارئة تماماً على استراتيجيات سابقة لها، وتظل في الجوهر وفية لاستراتيجية أصلية، عمادها إخضاع العالم وتسخيره لإرضاء الولايات المتحدة، حتى في أوج الانعزال عنه.
القدس العربي