فشلت مفاوضات جنيف 8 السورية، وما كان من الممكن أن لا تفشل. وليس السبب أن وفد المعارضة قبل الذهاب إلى جنيف من دون شروط، أو بسبب نقص استعداده، ولا ضعف المرجعيات التي يتمسّك بها لتوجيه سير المفاوضات، ولكن لأن الطرف الذي يقف أمامه يرفض بكل بساطة أي سلام، ويضرب عرض الحائط بأي مفاوضات، سواء أكانت من أجل الاتفاق على مرحلةٍ انتقالية، أو تسوية سياسية وحل وسط، أو حكومة وحدة وطنية تشارك فيها المعارضة بمقاعد وهمية. ولن يقبل النظام عقد السلام، بل حتى الصلح، حتى لو تخلت المعارضة عن كل مطالبها، وقرّرت الانضمام إلى النظام ضد “الإرهاب”، أي ضد الشعب السوري الذي لا يرى فيه نظام الأسد سوى إرهابيين ومعادين للوطن وفلسطين والعلمانية والسيادة والتقدم والاستقلال، فالنظام ليس سعيداً باستمرار الحرب فحسب، إنما لم ينس لحظة واحدة، قبل الثورة وبعدها، أن حياته أصبحت معلقةً كلياً باستمرارها. ولو حصل، وتوصلت الدول التي تتصارع، من خلاله ومن ورائه، على تقاسم النفوذ في سورية، والسيطرة على المشرق، إلى تسويةٍ في ما بينها تقود إلى توقف الحرب، لما وفر وسيلةً يمكنه استخدامها لتخريبها، وإعادة إشعال نار الحرب وتسعيرها.
نظام الحرب الأهلية الدائمة
ولد النظام في سورية في الحرب، وعاش فيها ومارسها نظام سيطرة وإكراه وإخضاع، خلال أربعة عقود، قبل أن يضطر إلى إعلانها شاملةً مع انطلاق أول شرارة لثورة مارس/ آذار 2011، ومع خروج أول تظاهرات شبابية إلى الشارع. ولهذا لم يقبل يوماً، قبل ذلك، وقف العمل بقانون الطوارئ الذي هو إجراء حربي بامتياز، بل الإطار القانوني للحرب الأهلية المعلنة من جانب واحد. وخاض، من دون تردد، حروبه ومجازره المتكرّرة، في حماة
1964، وفي أكثر مناطق سورية عام 1973، وفي المدن الرئيسية منذ عام 1979، ومنذ إعلان ربيع دمشق عام 2001. وحل، في هذا الإطار، جميع مجالس النقابات شبه المنتخبة، وعين بديلاً لها من صنعه، وقضى من الجذور على أي حرياتٍ مدنيةٍ لا سياسية فحسب، فصارت أجهزة المخابرات، أي أجهزة العنف والإكراه والقهر والابتزاز، هي المسؤولة المباشرة عن تعيين دور المواطنين وعملهم، وعن محاسبتهم على أقوالهم وأفكارهم وانتماءاتهم، أو عن تردّدهم في إعلان خضوعهم وإذعانهم. وشكل بناء السجون وتوسيعها الاستثمار السياسي الأكبر، إن لم يكن الوحيد للنظام خلال نصف قرن، إلى جانب أجهزة الجيش والأمن والإعلام المتخصص في الكذب والدس والتشهير والتحريض والتسميم الإعلامي الذي أتقن فنه، كما لم يحصل لأي نظام سابق، وربما لاحق. وهو لم يكفّ، منذ إعلانه الحرب الشاملة على مؤامرة الشعب “الكونية”، عن قطع أي طريق للإصلاح أو المصالحة أو حتى الاستسلام على خصومه، أملاً بأن يبيدهم، ويقضي عليهم بالمطلق. ولم يحترم، في أي وقت، اتفاقات المصالحات ووقف التصعيد التي أجبر عليها في بعض المواقع، وكذلك تحت ضغوط بعض حلفائه الأكثر مرونةً وحنكةً سياسية، لكنه استخدمها لخداع معارضيه، والإيقاع بهم، لقتلهم أو سجنهم وتعذيبهم. وتقصّد، في كل مرةٍ فرضت عليه الظروف والدول الحليفة الدخول في جولات مفاوضاتٍ شكلية، أن يفرط في استخدام العنف وزرع المناطق التي لا تخضع لسيطرته بالمجازر والموت بكل أشكاله، حتى يدفع معارضيه إلى اليأس وفقدان الأمل، ويجعل من مشاركتهم في المفاوضات عاراً عليهم. وعلى الرغم من ضمانات الروس والأميركيين والترك والإيرانيين والمصريين، لم يتردد لحظة في تقويض اتفاقات خفض التصعيد التي جهد الروس لتمريرها، من أجل تحييد فصائل في المعارضة المسلحة، وتجميد الجبهات لتوفير مزيدٍ من القوى المتحرّكة للنظام. وفي يوم افتتاح مفاوضات جنيف 8، حرص على تصعيد القصف بشكل جنوني على المدنيين، ومنع قوافل الأمم المتحدة من إدخال المساعدات للمحاصرين في الغوطة الشرقية لدمشق، ليؤكد إرادة الحرب، ورفضه الانصياع لأي مطلب آخر سوى مطلب الإجهاز على خصومه، واستكمال مشروع الإبادة الجماعية والتجويع والتهجير القسري، مهما كان الثمن. وسواء بقيت سورية دولةً، أم تحولت إلى مزرعة تعيث فيها مليشيات وعصابات محلية وأجنبية فساداً، وتتحكّم بأجزائها جيوش الاحتلال الأجنبية.
نهاية الحل السياسي
لا ينبغي على المعارضة أن تضحك على نفسها. نظام الحرب لا يمكن أن يتحول، بقدرة قادر، إلى نظام سياسة ومصالحة وتسوية وسلام. ولن يغير من هذا الواقع الذي يعزّزه انتصار إيران في المواجهة الإقليمية، التمسك بقرارات مجلس الأمن، ولا قبول ما تسمى المنصات المعتدلة أعضاء في وفد المعارضة، ولا تأكيدها الدائم حسن نياتها وسعيها، بأي ثمن، وراء الحل السياسي، ولا حتى تنازلاتها في أستانة، وربما قريباً في سوتشي. يمكن لاعتدالها، الشكلي أو الفعلي، أن يستدر لها شفقة المجتمع الدولي، وربما احترام بعض العواصم الخائفة وتقديرها، لكنه لن يحرّك أي إحساس، ولن يضمن لها التقدّم على أي مسار.
وتكذب المعارضة على نفسها، إذا اعتقدت أن روسيا تسعى إلى الحل، لأنها لا تريد أن تغرق في “المستنقع السوري”، أو أن الولايات المتحدة الأميركية مسكونة بهاجس قطع الطريق على التمدد الإيراني، أو أن إسرائيل أكثر ميلاً إلى وضع حد للحرب، بعد أن حققت أكبر أغراضها في تحويل الدولة السورية إلى حطام، أو أن إيران وحدها تتمسك بحالة الفوضى والتقسيم والاقتتال، لتحقق حلمها الامبرطوري الألفي، بالوصول إلى مياه المتوسط وفك عزلتها الدولية. لن يتوقف أي طرفٍ من هذه الأطراف عن القتال، ولا عن المخاطرة باستخدام أكثر الأسلحة فتكاً إذا احتاج الأمر، ما لم يحقق أهدافه، ليس في سورية فحسب، ولكن خارجها ومن حولها وبواسطتها. فالحرب مستمرة في سورية وعليها، ومن خلالها، طالما لم يكن هناك بعد إمكانية لتفاهم الأطراف، لا على تقسيم سورية ومناطق النفوذ فيها، ولا على بقائها موحدة وحيّة. موت سورية الحقيقي كما نشاهده اليوم هو المحصلة الطبيعية لغياب إمكانية التفاهم وتباين، إن لم يكن تناقض، أجندات جميع الأطراف. وليس لبقاء الأسد وحياته أو الإبقاء عليه وظل حكمه ونظامه سوى وظيفة واحدة، هي التغطية على هذا الموت السريري وتمديده في الوقت نفسه. بشار حي، وسيبقى حياً طالما بقيت سورية ميتة وجثة هامدة. ووجوده أكبر ضمانة لغيابها.
يبحث الروس عن حلٍّ بالتأكيد، لكنه الذي يضمن لهم تحقيق رهاناتهم وأهدافهم، لا ذاك الذي يضمن الحد الأدنى من العدالة للسوريين، ولا من باب أولى عودة الحياة إلى سورية المستقلة الحرة المزدهرة. والإيرانيون يرون السلام في تمكّنهم من بسط نفوذ مليشياتهم الكامل على جميع الأراضي السورية، وفي كل مستويات حكمها ونظامها. والأميركيون لا طموح لهم سوى الاحتفاظ بالقواعد التي أقاموها، والمناطق التي انتزعوها، بدعم مليشيات محلية أو من دونها، ضمن استراتيجية سيطرتهم الإقليمية، بصرف النظر عن مصير سورية. والإسرائيليون لا يهمهم سوى إبعاد الصواريخ الإيرانية قليلاً عن “حدودهم”، أما الأتراك فليس لهم قضية اليوم سوى الدفاع عن أمن تركيا وحرية حركة قواتها ضد أي خصوم محتملين، داخليين وخارجيين.
وجود بشار الذي لا يعني شيئاً لأيٍّ من هذه الأطراف، وهو ليس مهمّاً لما يمثله سياسياً، وإنما لأنه الضامن الوحيد لتقسيم سورية الراهن بين قوىً لا يمكن أن تتفق أو تتفاهم على أجندة واحدة، سورية أو إقليمية أو دولية. إذا ذهب بشار، سوف يخسر الجميع المكاسب الاستراتيجية الكبرى التي حققوها على حساب الشعب السوري، ويضطرون إلى التفاوض عليها مع حكومة وطنية، ذات شرعية فعلية، وبالتالي حق بالسيادة والاستقلال. ليس تعطيل مسار السلام إرادة أسدية اليوم، بمقدار ما هو إرادة جماعية للدول المستفيدة من تقاسم إرث نظامه المحطم على أشلاء الشعب السوري. وليست إرادة القتال التي لا يكفّ النظام وممثلوه عن إظهارها في جنيف، وعلى الأرض السورية، بعكس ما يحلو لبعضهم الاعتقاد، إلا التعبير الرسمي عن إرادة الاحتلال التي تسكن الوحوش المتعدّدة التي تتجمع حول الفريسة السورية، والتي يقدم لها بقاء الأسد بين الموت والحياة، الذريعة لالتهام ما تستطيعه منها. وبالمثل، ليس تسويقهم لانتصار الأسد سوى تأكيد لانتصارهم هم على سورية، وشعبها الأبي.
لا يعني ذلك أن على المعارضة السورية أن تهجر الساحة السياسية، فمن دونها لن تستطيع أن تحافظ حتى على ظل وجودها، لكن المفاوضات الحقيقية لن تكون مع الأسد، وإنما مع أسياده الحقيقيين، أعني الدول التي يشكل حكمه الهمجي اليوم ضمانتها الوحيدة لشرعنة احتلالها، وتكريس مكتسباتها والبقاء في البلاد. وفي جميع الأحوال، لا ينبغي على المعارضة أن تراهن على تناقضات المصالح بين الوحوش الضارية التي تتكالب على الفريسة السورية للوصول إلى حل، فالتناقضات القائمة، والحقيقية في أكثر الأحيان، هي تناقضات مصالح وتنافس على اقتسام الغنائم. ولا يمكن أن تصل إلى مستوى التناقضات الاستراتيجية، طالما أن احتفاظ كل منها بمكاسبه لا يتحقق إلا بالتفاهم على تحييد السوريين، وإخراجهم من المنافسة، وقطع الطريق، بكل الوسائل، على عودة سورية دولة مستقلة وواقفة على قدميها. وليس اتفاقها جميعاً على بقاء الأسد سوى عنوان التسوية القائمة اليوم في ما بينها، وأساس التفاهم على قتل سورية وتقاسم أشلائها.
هذا يعني أنه، بعكس ما يردّد جميع الفاعلين، بما في ذلك الأمم المتحدة وممثلوها، كالببغاء منذ أكثر من ست سنوات، وهم يعرفون أنهم كاذبون تماماً، لا يوجد حل سياسي للمسألة السورية. طريق الحل السياسي مسدود تماماً، وهذا لا يعني أن طريق الحل العسكري هو المفتوح والمتاح، فلن تسمح أي قوة كبرى لغيرها بأن تبسط سيطرتها الأحادية على سورية مهما كان الثمن. سيبقى الوضع السوري فترة طويلة في حالة استعصاء، خارج إمكانية الحلين، السياسي والعسكري، معاً، أي في حالة اللاحل. وهذا يعني تكريس الوضع القائم، وبالتالي المزيد من التعفن والدمار والوهن والانهيار.
خيارات المعارضة
لا يضير هذا الوضع النظام في شيء، بل إنه يوافق مصالحه وهواه. فهو الوضع المثالي الذي يسمح له بالبقاء والتمادي في القسوة والوحشية وإظهار عدم مسؤوليته واستهتاره بحياة الناس والمجتمع معاً، أي بتحقيق ذاته نظام حرب أهلية دائمة. لكن هذا الوضع يدمر صدقية المعارضة، ويخرجها من أي حساب، ويجعلها مجالاً للسخرية والاستهزاء. وهذا ما يسعى إليه النظام أيضاً من خلال جرجرة المعارضة إلى مفاوضاتٍ فارغة من المعنى، وتقصُّدُه المبالغة في العنف والقصف الوحشي، خلال المفاوضات. وفي ما وراء ذلك تحطيم المجتمع وزرع اليأس والإحباط عند السوريين، وتحويل حلم التحرّر والانعتاق الذي جسّدته الثورة إلى كابوس لا يطاق. من مصلحة المعارضة وحدها أن تكسر هذا الاستعصاء، حتى لا تتحول إلى ألعوبةٍ في يد المجتمع الدولي أو الأمم المتحدة، أو إلى كرةٍ تتقاذفها الدول المتنازعة والنظام. وليس أمامها في نظري سوى خيارين.
الأول أن تعيد تنظيم قواها العسكرية المتبقية لتجعل منها قوة مقاومةٍ وطنيةٍ، تعمل تحت قيادة سياسية واحدة، لكسر هذه الحلقة المفرغة والقاتلة معاً، وتوفير ذراع عسكرية تعطي لوجودها السياسي ومفاوضاتها ثقلاً ومعنى، وتضمن من خلالها الحفاظ على المطالب الشعبية وتطلعات السوريين نحو الحرية والدولة الديمقراطية التعدّدية، وتحرم نظام الحرب الاهلية، وحليفه المتجسد في الاحتلالات الأجنبية، من أي أمل في الحصول على شرعية الأمر الواقع. وهذا يقتضي تفاهماً بين أطراف المعارضة المسلحة والسياسية، على برنامج عمل وطني واستراتيجية متكاملة.
الخيار الثاني هو انتزاع فكرة المؤتمر الوطني من الروس، وقلب الطاولة على مؤتمر سوتشي الذي يسعى الروس من خلاله إلى استثمار ما يعتقدون أنه نصرهم الكبير، والعمل، بالتشاور مع الدول المختلفة التي ليست ذات مصلحة في الحفاظ على الوضع القائم في سورية، على تنظيم مؤتمر وطني، سوري بالفعل، تعدّ له لجنة تحضيرية سورية، تحظى بثقة جميع الأطراف، وتشرف على تحضير وثائقه، وتحديد جدول أعماله، ووضع قائمة المشاركين فيه من جميع الأطياف السياسية والاجتماعية السورية، يعقد تحت إشراف الأمم المتحدة وقيادتها، وربما في مقرّها أيضاً. وينبغي أن يكون، بعكس مؤتمر سوتشي الذي تتحكّم بكل شيء فيه موسكو، وتريد منه أن يكرّس مكاسبها الاستراتيجية في سورية، مؤتمراً مفتوحاً حتى التوصل إلى تفاهم وحل سياسي بين السوريين.
وحبذا لو أمكن الجمع بين الخيارين: إعادة تشكيل الفصائل المقاتلة في صيغة مقاومة وطنية فوق الأرض وتحت الأرض، وهذا ما يحول دونه تبعية فصائل كثيرة لدول الاحتلال، والعمل على تنظيم مؤتمر وطني سوري بمبادرة سورية، وبرعاية الأمم المتحدة وإشرافها وتحت مسؤوليتها، يقطع الطريق على موسكو وغيرها في احتكار المبادرة للتوصل إلى حل سياسي، تحول دونه، منذ البدء، مصالحها القومية وتناقضها مع مصالح الأطراف الأخرى.
باختصار، أثبتت السنوات الست الماضية أنه لا توجد مصلحة لأحد غير السوريين في حل سياسي، ولا إمكانية لإنهاء النزاع العسكري، قبل أن يحصل تفاهم دولي حول مناطق النفوذ وأشكاله، بل، أكثر من ذلك، حول مصير سورية نفسها. وهذا مما لا يزال صعب المنال. لكن، في المقابل، تشكل زعزعة المخططات القائمة والحيلولة دون تكريس وضع الاحتلال وتقسيم سورية إلى مناطق نفوذ، المهمة الرئيسية التي على المعارضة السورية أن تُعنى بها اليوم قبل المفاوضات وأي تفاهمات أخرى. ولا سبيل لديها لتحقيق ذلك سوى إحياء روح المقاومة الوطنية، وتظهير إرادة السوريين وتوحيدها.
وعلينا وحدنا، أعني السوريين، تقع مسؤولية انتزاع المبادرة على الجانبين.
برهان غليون
صحيفة العربي الجديد