معركة عفرين وهواجس الأمن القومي التركي

معركة عفرين وهواجس الأمن القومي التركي

معمر فيصل خولي*

في العشرين من الشهر الحالي بدأت رسميّا عملية الجيش التركي بمشاركة الجيش السوري الحر ضد وحدات حماية الشعب بمدينة عفرين الحدودية شمالي سوريا، والتي أطلق عليها اسم “غصن الزيتون” بعد تدشين المرحلة البرية، حيث أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن عملية عفرين (شمالي سوريا) قد بدأت على الأرض، وستتبعها مدينةمنبج، وستستمر حتى حدود العراق، وذلك لطرد وحدات حماية الشعب الكردية من تلك المناطق.وأضاف أردوغان في مؤتمر لحزبه بولاية كوتاهيا غربي تركيا، أن هناك من يحاول خداع تركيا بوضع أسماء مختلفة للمنظمات الموجودة في سوريا، وإن بعضهم يقول إنها جيش حماية حدود؛ في إشارة على ما يبدو إلى ما قالتالولايات المتحدة إنها قوة عسكرية تسعى لتشكيلها على حدود سوريا من المقاتلين الأكراد وغيرهم.واعتبر الرئيس التركي أن اسم هذه المنظمة هو حزب العمال الكردستاني، “ولا يهمنا ما يقولون”.وقال أردوغان إنه “لا يحق لأحد أن يقول لنا أي شيء ما دامت الوعود التي قدمت لنا في منبج لم تنفذ”، وأضاف موجها حديثه للولايات المتحدة “سيأتي يوم تفهمون فيه خطأكم في الاعتماد على المنظمات الإرهابية”.

تباينت المواقف بشأن “غصن الزيتون” بعد انطلاقها، حيث أكد رئيس الأركان التركية خلوصي أكار أن العملية حق مشروع لبلاده تكفله القوانين والقرارات الدولية، كما اتصل رئيس حزب الحركة القوميةالتركي المعارض، دولت باهجه لي بالرئيس أردوغان وأعرب له عن دعمه للعملية.وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس قال من جهته إن “لدى تركيا مخاوف أمنية مشروعة، وأبلغتنا مسبقا بغاراتها الجوية” على مدينة عفرين، وأضاف أن تركيا شريك مهم لبلاده في حلف شمال الأطلسي. وسارع “الناتو” للتعبير عن دعمه لتركيا ولـ”غصن الزيتون”، وقال مسؤول في حلف الناتو لمراسل الأناضول في العاصمة البلجيكية بروكسل إن تركيا تقع في منطقة تسودها الفوضى، وإنها تعرضت لخسائر كبيرة بسبب الإرهاب. وأشار إلى أن تركيا زودت حلفاءها في الناتو بمعلومات حول عملية غصن الزيتون.وحمّلت موسكو واشنطن مسؤولية الأزمة في عفرين،

وقالت وزارة الدفاع الروسية إن “الاستفزازات الأميركية” من العوامل الرئيسية التي أزّمت الوضع شمالي غربي سوريا ودفعت تركيا لشن عملية عسكرية في عفرين ضد مسلحي وحدات حماية الشعب الكردية.واعتبرت الوزارة الروسية أن سعي أميركا لعزل مناطق الأكراد ودعمهم بالسلاح وراء حمل الجيش التركي على شن عملية عفرين العسكرية، وأعلنت أنها سحبت أفراد المراقبة التابعين لها من محيط عفرين حفاظا على سلامتهم وتجنبا لأي استفزازات. أما الرئيس السوري بشار الأسد فقال إن عملية عفرين لا يمكن فصلها عن السياسة التي انتهجتها تركيا منذ اليوم الأول لاندلاع الصراع في سوريا، ووصف “غصن الزيتون” بـ”العدوان الغاشم على مدينة عفرين”.

ولعل الذي عجّل في بدء هذه المعركة، إعلان التحالف الدولي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية العمل على تشكيل جيش قوامه 30 ألف مقاتل يقوده أتباع حزب العمال الكردستاني التركي داخل سوريا، ويقوم بحراسة الحدود السورية مع تركيا والعراق، مجموعة من ردود الفعل الدولية الكبيرة. وقد اتهم ياسين أقطاي مستشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الولايات المتحدة باستخدام ورقة قوات حماية الشعب الكردية لتقسيم سوريا، في الوقت الذي تؤكد فيه تركيا وحدة الأراضي السورية. وأكد أقطاي رفض تركيا القاطع لخطط واشنطن لإنشاء قوة أمنية حدودية شمال سوريا، تتشكل من  ثلاثين ألف مقاتل، بمشاركة فصائل كردية بقيادة ما تعرف بقوات سوريا الديمقراطية، وقال إن تركيا ترفض تواجد مجموعات إرهابية على حدودها الجنوبية. وقال إن واشنطن تنتهك بخططها تلك قواعد ومبادئ حلف الناتو، الذي يعاني أزمة حاليا بسبب الانتهاك الأميركي لمبادئه. وشدد أقطاي أن تركيا لن تسمح بقيام “كانتون” (تجمع) كردي في سوريا، معتبرا أن عفرين ومنبج وغرب الفرات خط أحمر بالنسبة لتركيا.وأضاف “لن نسمح بتصفية عرقية من قبل قوات الحماية الكردية للعرب على حدودنا مع سوريا”، مؤكدا أن تركيا لها كل الحق في استخدام القوة في سوريا لحماية أمنها القومي. وقال إن سيناريو المواجهة العسكرية وارد، “وسندخل عفرين ومنبج إذا اقتضى الأمر، وهذا ليس مزحا”. والسؤال الذي يُطرح في هذا السياق ما أهمية عفرين لدى الأكراد والأتراك، وماذا يتطلب من تركيا كي تحسم المعركة لصالحها؟

تخضع المدينة سياسيا للإدارة الذاتية وعسكريًا وأمنيًا “لوحدات حماية الشعب”، وتعتبر من التجمعات الثلاثة التي تشرف عليها الإدارة الذاتية في سوريا (الجزيرة، وعين العرب/كوباني، وعفرين).في يناير/كانون الثاني 2014 أعلن الحزب الاتحاد الديمقراطي إدارة ذاتية في الشمال السوري على تجمعات ثلاثة: عين العرب/كوباني، والجزيرة في الشرق، وعفرين في الغرب. وتحتل عفرين أهمية إستراتيجية في المشروع الكردي، نظرا لأنها تشكل الجسر الجغرافي لوصل هذا المشروع بالبحر الأبيض إذا أتيحت الظروف ذلك، كما صرح بذلك العديد من المسؤولين الأكراد.غير أن هذه المنطقة تعد خطا أحمر بالنسبة لتركيا التي تؤكد أنها لن تسمح بإقامة كيان كردي على حدود تركيا الجنوبية مع سوريا، وقال الرئيس التركي أردوغان في تصريح له إنه لن يسمح بإقامة “ممر إرهابي يبدأ من عفرين ويمتد إلى البحر المتوسط”.كما طالب الرئيس أردوغان في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 بتطهيرعفرين من الأكراد، وقال إنه “من الضروري جدا بالنسبة لنا تطهير منطقة عفرين من المنظمة الإرهابية، حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه وحدات حماية الشعب الكردية”.كما أعلن الرئيس التركي في التاسع من يناير/كانون الثاني 2018، أن جيش بلاده سيوسع عملية درع الفرات لتشمل منطقتي عفرين ومنبج (شمالي سوريا)، وقال لأعضاء حزبه “إن الوقت قد حان للقضاء نهائيا على مشروع إنشاء الممر الإرهابي الذي ينوي التنظيم الإرهابي تنفيذه في سوريا”. وأطلقت تركيا عام 2016 عملية درع الفرات على حدودها مع سوريا للقضاء على ما وصفته “بممر الإرهاب”، المتمثل في خطر داعش والمقاتلين الأكراد السوريين الذين تعتقد تركيا بأنهم يتبعون حزب العمال الكردستاني التركي المصنف تركيًّا وأميركيا وأوروبيا حزبا إرهابيا.

وفي هذا الإطار تكمن أسباب تركيا المتعددة لخوض معركة عفرين، أولًا القرار الأمريكي في تشكيل جيش كردي الذي عدته أنقرة بمثابة تشريعاً لدولة كرديّة مقبلة، تشكل خطراً وجوديّاً على الدولة التركية لأنها ستكون قاعدة ممكنة لشنّ الهجمات عليها، وربما للتوسّع وضمّ المناطق التي يعتبرها الحزب أراضيه داخل تركيا نفسها. وقد استدعى القرار الأمريكي، عمليا، الردّ التركي، ولكنّ بالنظر إلى أن كل خطط الحكومة التركية السابقة كانت تواجه برفض أمريكي واضح، فهل وصل الأتراك إلى ما يمكن اعتباره حافّة الهاوية التي لا يمكن قبول السقوط فيها، وباتوا مستعدّين لاجتياز الخطّ الدولي المانع للهجوم على حزب العمال، أم أن هذا الخطّ لم يعد موجوداً بعد تصريحات متحدثين من وزارة الدفاع الأمريكية تؤكد أن قوات الحزب في عفرين «ليست جزءاً من العملية الأمريكية ضد داعش»، وأنها لا تقوم بدعم تلك القوات عسكريا؟

ثانيّا الدعم العسكريّ والسياسي الأمريكي لحزب العمال الكردستاني على مدار السنوات الماضية لم يكن المتغير الوحيد في المعادلة السورية الشديدة التعقيد، فالحزب كان أداة لاستخدام النظام السوري له منذ بدء الثورة عام 2011 ضد كل الأطراف الكردية التي تعاطفت مع تلك الثورة، كما استطاع فتح خطوط على الروس، الذين يريدون مماحكة الأتراك به، ومنافسة رعاته الأمريكيين، وخطوط أخرى مع الإيرانيين بحيث تم تبادل منافع ومصالح الطرفين في سوريا وإيران والعراق، وكذلك مع الأوروبيين الذين سمحوا لمتطوّعين من جنسيات أوروبية بالقتال معه، وزوّدوه بأشكال عديدة من الدعم العسكري. وفّر كل هؤلاء الرعاة والداعمين لحزب العمال مجالا واسعاً للحركة، لكنّه أجّج مشاعر تاريخية عميقة لدى الأتراك بأن خطة الحلفاء القدامى في الحرب العالمية الأولى (الروس والبريطانيون والفرنسيون) لتحطيم بلادهم قد تمت استعادتها مجدّدا وأن حزب العمال هو أداة تنفيذها الكبرى بعد سقوط محاولة الانقلاب العسكري الأخيرة صيف عام 2016.

الخطّة التركيّة لكسر شوكة الحزب في عفرين تحتاج إلى تخلّي واشنطن عن حليفها الكرديّ هناك، وهو أمر صعب لكنه ممكن إذا اعتبره الأمريكيون ثمناً معقولا للاعتراف التركي بخطتهم للسيطرة على منطقة شرق الفرات، وفي هذا السياق طمأنت واشنطن الجانب التركي بأن التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لن يشن عمليات عسكرية في منطقة مدينة عفرين السورية، كما نفت أي دعم لـ”وحدات حماية الشعب” الكردية الموجودة في مدينة عفرين، وقالت إنها “لا صلة لها بها”.

واعتبرت بعض الأوساط التركية أن هذا الموقف يشير إلى أن الولايات المتحدة الأميركية لن تتدخل ضد أي عملية عسكرية تركية مقبلة في منطقة عفرين، إلا أن جاويش أوغلو اعتبر أن تصريحات مسؤولين أميركيين حول مخاوفهم بشأن الحدود السورية غير مطمئنة، ولذلك شدد على أن بلاده ستتدخل “في عفرين ومنبجبسوريا”، وأنهم أبلغوا أميركا بأنهم لا يريدون مواجهة حليف لهم هناك. ولا شك في أن الحصول على موافقة موسكو على العملية العسكرية في عفرين سيخضع لمساومات بين الروس والأتراك، حيث لن تقدم روسيا دعمها للعملية إلا مقابل تنفيذ الجانب التركي التزاماته المتعلقة بمسار أستانا، والقاضية بضمان الأمن في إدلب والتحرك نحو تصفية “جبهة فتح الشام” (جبهة النصرة سابقا) تدريجياً. هذا إضافة إلى أن الموافقة الروسية على الطلب التركي تأتي في وقت تتوحد فيه مواقف الساسة الروس والأتراك والإيرانيين، لإفشال المشروع الأميركي الساعي لتشكل جيش جديد، من خلال إضعاف مليشيات وحدات الحماية الكردية، وهذا ما تسعى إليه تركيا عبر عمليتها العسكرية في عفرين. ومع ذلك يريد الساسة الروس من نظرائهم الأتراك أن توجَّه عمليتهم العسكرية فقط نحو إبعاد عناصر حزب العمال الكردستاني من غير السوريين وتحديداً الأتراك، لكون الروس لا يزالون ينسقون مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري الذي يمتلك مكتباً في موسكو، ولا ترغب موسكو في أن تخسر تماماً لصالح تحالفه مع واشنطن. وما أدل على استجاية روسيا للموقف التركي في عفريت اعلانها سحب مراقبيها العسكريين من محيط المدينة.

أما إيرانيًّا، تُجري الحكومة التركية اتصالات مكثفة مع طهران لكسب تأييدها لمعركة أنقرة في عفرين، مستندة في ذلك على رفض الدولتين قيام كيان كردي مستقل سواء أكان في سوريا أم العراق، تحسباً لانعكاسات محتملة على أمنهما القومي، وتعوّل الحكومة التركية على التنسيق المشترك بينهما في الصراع السوري، الأمر الذي يعتبره الأتراك عاملاً مساعداً في موافقة إيران على تحرك بلادهم في الشمال السوري. لكن إيران  بالمقابل لا تريد أن تستفرد تركيا في شمالي سوريا، خشية من تأثير الدور التركي على مشروعهم التوسعي فيها وفي المشرق العربي، إضافة إلى سعيهم لأن يكونوا أصحاب اليد الطليقة في الوضع السوري بالتعاون والتنسيق مع روسيا. ويشهد واقع الحال بأن تركيا لم تعمد إلى مواجهة المخططات الإيرانية في سوريا ولا في العراق، بل إن الغياب التركي على الأرض السورية استغله الساسة الإيرانيين لصالح مشروعهم الساعي لبسط النفوذ والهيمنة، وفرض حلّ بالقوة في سوريا، وبما يمكّنها من فتح الممر الواصل بين طهران وبيروت مروراً ببغداد دمشق.ولذلك يسابق الساسة الإيرانيون الزمن -بواسطة مليشياتهم في سوريا- من أجل الاستيلاء على المزيد من مناطق سيطرت المعارضة السورية، وهو ما يقومون به في أيامنا هذه في كل من غوطة دمشق الشرقية ومحافظة إدلب.

المشاهد المطروحة بخصوص معركة عفرين، يتلخص بمشهدين رئيسين:

الأول، عملية واسعة تهدف لتقويض سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي على عفرين تماماً، أي عملية شبيهة بدرع الفرات من حيث الإعداد والمراحل والتدرج، واشتراك عدة فرق من مختلف الاختصاصات في الجيش التركي، إضافة إلى مجموعات السوري الحر.

الثاني، عملية محدودة تنتزع بعض المناطق من الحزب وتحاصره في منطقة جغرافية أضيق، مما سيقلّل خطره على الحدود التركية، ويُنهي إمكانية اتصاله لاحقاً بالكانتونات الشرقية جغرافياً، فضلاً عن منع وصوله إلى مياه المتوسط. ثمة تحديات كثيرة أمام الخطة التركية المفترضة؛ أولها اختلاف تضاريس عفرين عن مناطق درع الفرات حيث تبدو أكثر وعورة وتعقيداً، وعدم اطمئنان أنقرة لمواقف موسكو وواشنطن على المدى البعيد. المعركة، في النهاية، هي معركة تركيّة لأنها تقوم بين طرفين تركيين، أو هي بالأحرى، معركة على تركيا نفسها، ولكنّها، بالضرورة ستؤثر على مسارات الأحداث اللاحقة في سوريا، وبالتالي هي أيضاً معركة على سوريا.

مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية