القاهرة – قدم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي نفسه للمواطنين قبل حوالي أربع سنوات، على أنه سيبني مصر الحديثة، على غرار بعض القيادات الاستثنائية في التاريخ المصري. البعض شبهه بمحمد علي باشا في القرن التاسع عشر الذي وضع اللبنات العصرية للدولة المصرية. والبعض شبهه بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذي حاول وضع أسس وطنية راسخة في الاقتصاد والسياسة. وآخرون اتخذوا من منهجه العملي مدخلا لتشبيهه بالرئيس الراحل أنور السادات.
جميع الاجتهادات لم تكن موفقة، لاختلاف الأشخاص والأزمنة والتحديات والمناخ العام في الداخل والخارج، وعلى الرغم من الاختلافات أولى السيسي اهتمامه بمجال التنمية والتعمير بشكل لافت. وحاول التركيز على بعض المشروعات القومية، مثل شق تفريعة لقناة السويس وبناء العاصمة الإدارية بشرق القاهرة. وبصرف النظر عن مدى حاجة مصر لها من عدمه، إلا أنه في الحالتين أراد تحقيق نصر شعبي يوحي بأنه يملك رؤية ويستطيع جذب المواطنين صوبه.
وحقق الرئيس المصري ما أراده في العامين الأولين، من زيادة الالتفاف الشعبي حوله، وتأكيد استقلاله الوطني، عبر مشروع قناة السويس التي جمع تكاليف شقها من جيوب المواطنين خلال 7 أيام، لكن الأهداف الاقتصادية لم تكن على المستوى الذي جرى الترويج له.
في المقابل استحوذت مشروعات أخرى، مثل التوسع في محطات الكهرباء ورصف الطرق وبناء الجسور وغيرها، على جزء كبير من المساعدات والمعونات التي حصلت عليها مصر، ولم يشعر المواطنون بتحسن ملموس في حياتهم المعيشية، وحصل العكس حيث لم تظهر ثمار التنمية بعد.
بين خطابين
يبدو لافتا البون الشاسع بين خطاب السيسي الرسمي في بدء ولايته الأولى، الذي ركز فيه على أولوية تثبيت أركان الدولة ومحاربة الإرهاب والتنمية، وبين خطابه أمام البرلمان في 2 يونيو الجاري مع بدء الولاية الثانية، والذي أكد فيه أن “ملفات وقضايا التعليم والصحة والثقافة في مقدمة اهتماماتي”.
لم تغب هذه الملفات عن الاهتمام في فترة ولايته الأولى، كما أن التنمية لن تغيب عن اهتمامه في ولايته الثانية، لكن الإعلان الرسمي عن الحاجة إلى التطوير في مجالات التعليم والصحة والثقافة والتنمية المحلية مسألة ضرورية. فأي تقدم تنموي سوف يحدث لن يكون مجديا ما دام المواطن المصري، جاهلا ومريضا وفقيرا.
التطوير في مجال التنمية مسألة ضرورية، فأي تقدم سوف يحدث لن يكون مجديا ما دام المواطن المصري جاهلا ومريضا وفقيرا
ويؤكد خطاب الولاية الثانية، أن السيسي قرر دخول المجال الطويل والصعب حيث أن مشروعات التنمية مكلفة ومرهقة، لكن التقدم فيها ليس مستحيلا.
والصعوبات تكمن في إعادة بناء الشخصية المصرية، التي تآكلت الكثير من جوانب إبداعاتها في السنوات الماضية، وهو ما أثر على غالبية مناحي الحياة، وخلق انطباعات سلبية، لذلك فالاهتمام بالإنسان وتحسين ظروفه التعليمية والصحية والثقافية، من المفاتيح الرئيسية لإعادة الاعتبار لها، التي تمكنها من حسن إدارة المشروعات العملاقة التي يطمح السيسي إلى الانتهاء منها في فترة ولايته الثانية.
ويقول جهاد عودة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان في جنوب القاهرة، لـ”العرب” إن “الدولة المصرية لديها خطط واضحة للإصلاح في مجالات مختلفة، ولديها سياسات تنموية تسعى إلى تطبيقها، ومهمة أي مسؤول هي تنفيذ السياسات والتوصيات التي رسمها السيسي وفريقه العلمي”.
وينطوي التحول في الأولويات على معانٍ كثيرة، أهمها أن الدولة حققت ما كانت تستهدفه في مرحلتها الأولى من تثبيت أركانها، وفتح الباب لمشروعات تنموية متنوعة، وهي تعي أن هناك خللا كبيرا يواجه الخدمات الرئيسية المرتبطة بالإنسان، وترى أن تحقيق إنجازات فيها هو المدخل المناسب لتحسين مستوى المعيشة، الذي يرفع من الشعور بالرضا لدى المواطنين تجاه النظام الحاكم، الذي تراجع عقب الانخراط في المشروعات القومية دون أن تظهر لها مردودات مباشرة.
ويشير الإعلان صراحة عن التركيز على التعليم والصحة وخدمات المواطن، إلى أن الدولة لديها خطة فعلية، وهو ما يتسق مع قول السيسي في خطاب الرئاسة الثانية أمام البرلمان “نقتحم المشكلات ونواجه التحديات ونحن مصطفون محافظون على تماسك كتلتنا الوطنية حية وفاعلة”.
ولا تعني إعادة رسم خارطة عمل الحكومة في السنوات الأربع المقبلة استبعاد الأولويات الاستراتيجية؛ الأمن والاستقرار والتنمية. فمواجهة الإرهاب مثلا تبقى قضية محورية تحظى باهتمام الحكومة، والتقدم الذي حصل على هذه الجبهة بحاجة إلى المزيد من اليقظة كي لا تعود فلول الإرهابيين للصدارة مرة أخرى.
وقد نالت الحرب ضد الإرهاب جانبا من الحريات المكفولة بالدستور، وجرى توظيفها لتضييق الخناق على المعارضين للحكومة. لذلك فإن استمرار العزف على نغمة مخاطر الإرهاب بشكل مبالغ، يعني المضي قدما في المنهج السابق ذاته، وهذه الزاوية تقلل من فكرة بناء الإنسان العصري، لأنه من دون الحريات وتوفير درجة عالية من ممارسة حقوقها سوف تقع الحكومة في خطأ جوهري يضع مصداقية الخطاب الجديد على المحك.
قضايا غائبة
ينص الدستور المصري في المادة 18 على حق كل مواطن في الصحة والرعاية الصحية المتكاملة، مع التزام الدولة بإنفاق ما لا يقل عن 3 بالمئة من الناتج الإجمالي على الخدمات الصحية. وتنص المادة 19 على حق كل مواطن في التعليم وإلزام الدولة بالإنفاق عليه ما لا يقل عن 4 بالمئة من ناتجها الإجمالي. ورغم مرور أربعة أعوام على وضع الدستور، إلا أنه لم يتم تنفيذهما.
ويكرر متحفظون على مرحلة المشروعات الكبرى مقولة شهيرة للمفكر الراحل مصطفى محمود مفادها أن جمال عبدالناصر بنى السد العالي، وهدم الإنسان المصري، ما يعني أنه لا قيمة حقيقية لمشروعات طرق وكباري ومبان فخمة، ما دام الإنسان محروما من القدرة على الاستمتاع بالحياة.
الأولوية لتطوير التعليم لضمان مستقبل أفضل
وتمثل قضايا الإنسان محل اهتمام خبراء يرون أن مصر تأخرت كثيرا فيها، وأحد هؤلاء هو محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي.
وزار محيي الدين القاهرة، في نوفمبر الماضي، وألقى محاضرة في غرفة التجارة الأميركية حول مستقبل التنمية، أكد فيها أن الاستثمار في الإنسان، تعليما وصحة ورعاية اجتماعية، مهم جدا ولا يقل عن الاستثمار في البنية التحتية. ويرى مؤيدو النظام الحاكم، أن الدولة مقبلة على مرحلة جديدة عمليا، سوف تتغير فيها الكثير من مراكز الثقل، وستدخل قطاعات وقضايا مستحدثة دائرة الضوء، بعد أن كانت حكومات سابقة تعتبرها هامشية أو مستحيلة.
وقد ينتقل ثقل الوزارات السيادية، مثل الدفاع والداخلية والخارجية، إلى وزارات التعليم والبحث العلمي والصحة والتنمية المحلية والثقافة، وتصبح سيادية أيضا، لما تقوم به من دور مركزي خلال المرحلة المقبلة.
وحسب فريق المناصرين، فإن ذلك تصحبه تكليفات محددة ومباشرة بالنسبة إلى الحكومة الجديدة، وإلى كل وزارة من الوزارات المرتبطة بقضايا الإنسان المستهدفة. وسوف تظهر حوارات مجتمعية عديدة حول قضايا الصحة والتعليم والتأمين الاجتماعي والثقافة في لقاءات عامة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يدفع بقوة لتقوية الأحزاب واستعادة المجتمع المدني والقيام بدور أكبر في تلك القضايا.
ويقول طارق فهمي، الخبير في الشؤون السياسية، التركيز على التعليم والصحة والثقافة كأولويات “لا بد أن يترجم إلى سياسات محددة، وتشريعات واضحة، لأننا أسقطنا ما جاء في الدستور بشأن هذا القضايا من حساباتنا في ظل ضعف الموارد المالية”.
مصر تدخل مرحلة سياسية جديدة تعقد آمال المصريين على النهوض بالمجتمع من خلال تطوير مجالات الحياة الضرورية
ويضيف لـ”العرب” أن “العنوان الرئيسي لأولويات السيسي في مرحلته الثانية هو التركيز على القضايا الداخلية، بعد النجاح الواضح على الصعيد الخارجي، ولا سيما ما يخص التوازن في العلاقات الإقليمية والدولية وتجنيب البلاد الكثير من المخاطر السياسية والأمنية واستعادة الزخم مع قوى كبيرة”.
في هذا الإطار، من الضروري تفعيل دور مؤسسات الدولة الحقيقية، بدءا من مجلس النواب، ومن المتوقع أن يتم تطوير دوره، كي لا يكتفي بالتشريعات ويمارس دوره الرقابي، ومرورا ببنية النظام الأساسي الممثلة في الأحزاب، وحتى المجتمع المدني مرشح لأن يلعب دورا في دعم القضايا الوطنية.
ويؤكد فهمي، أن النظام المصري لا بد أن يخرج من مرحلة الشخصنة إلى توزيع الأدوار على جميع الأطراف المسؤولة، ويرى أن الأوان قد حان لضخ الدماء في مؤسسات الدولة التي تمس قضايا الإنسان بشكل مباشر.
ويشدد الخبراء على أهمية الانتقال من الإصلاح الشكلي إلى الإصلاح الشامل لقضايا التعليم والصحة والإنسان، وهو ما يستلزم ممارسة ديمقراطية بصفة متكاملة، بدأ يلمح إليها السيسي، الذي ينتظر الناس منه تطبيقها، وكان السيسي يتحدث بلغة إيجابية في ملف الحريات والديمقراطية، لكن الممارسات تأخذ اتجاها مختلفا، الأمر الذي قد يقلل من أهمية الحديث بشأن الطفرة الكبيرة المنتظرة في مسألة بناء الإنسان.
عقبات الإصلاح
أصبح العمل الجماعي المؤسسي أحد ضرورات نجاح مشروعات تنمية الإنسان، غير أنه ثمة إشكاليات تواجه هذه القضية، أهمها الكلفة المالية. ومعروف أن أي إصلاح جوهري في ملف من الملفات يستلزم مخصصات مالية إضافية. وتقدر مخصصات وزارة التربية والتعليم في مصر في موازنة العام الجاري بـ80 مليار جنيه أي ما يعادل 4.5 مليار دولار، وأكثر من 80 بالمئة منها يذهب كبند أجور ورواتب للمدرسين.
ويرى بعض الخبراء أن مصر قد تلجأ إلى حلول غير تقليدية لتدبير موارد مالية من أجل إعادة بناء النظام التعليمي والصحي، وفي أغلب الأحوال فإن تدبير تلك الموارد سيكون داخليا وتكافليا بعد تفعيل الحوار المجتمعي بشأن الإصلاح.
في حالات مشابهة تلجأ الحكومات إلى فتح باب تبرعات تحت لافتة مشروع قومي لإصلاح التعليم أو الصحة، ويتم عمل تشريعات تستهدف فرض ضرائب قطعية على الأكثر ثراء أو ترفا لصالح تلك المشاريع، غير أن خبراء السياسة يرون أن الحكومة غير قادرة على توفير الموارد اللازمة من البنود المعتادة.
عودة الثقة في الدولة ومؤسساتها المهمة الأساسية للمسؤولين الجدد في البلد
كما أن مقاومة أصحاب المصالح، من المستفيدين من الأوضاع الحالية، سوف تزداد ضراوة. ومتوقع أن يضغط هؤلاء لمعارضة التغيير في النظم الحاكمة للتعليم والصحة، وربما يضعون معوقات كثيرة في سبيل الوصول للإصلاح المنشود. من هُنا تبرز أهمية تقوية الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، لتصبح الإصلاحات المطلوبة خطابا لها تبشر به وتتحاور بشأنه وتتوافق على آلياته.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك إشكالية مهمة، تتعلق بنوعية الشخصيات التي ستتم الاستعانة بها لتنفيذ مشروعات تنمية الإنسان في مختلف الوزارات. ويتبادر إلى الأذهان سؤال حول مؤهلاتهم وقدراتهم على تحويل سياسات الإصلاح الموضوعة سلفا إلى واقع عملي.
ويعتقد بعض المراقبين أن عدم وجود هياكل مؤسسية لاختيار الوزراء التنفيذيين الموكولة لهم مهمة تطبيق مشروعات إصلاح التعليم والصحة والتنمية المحلية وغيرها من الأولويات، مسألة تنذر بالتشكيك في تحقيق نقلة نوعية، مثلما كان الاتحاد الاشتراكي في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، أو لجنة سياسات الحزب الوطني في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك الجهة المسؤولة عن جمع الخبرات والكفاءات المتميزة لتكون جاهزة حال طلبها لتنفيذ سياسات بعينها.
ويوضح جهاد عودة، لـ”العرب”، أن هذه ليست أزمة، فمن الممكن أن يتم التغلب على ذلك عبر ترشيحات تقدم من رئاسة الجمهورية نفسها والأجهزة المعاونة، فالدولة لديها أدواتها للتعرف على الشخصيات ذات التعليم المتميز والأفكار غير التقليدية للاستعانة بهم في مهام حقيقية.
أضف إلى ذلك ما يوصف بـ”الاستغلال السياسي” من جانب خصوم السلطة في مصر لمحور قضايا الإنسان في جرجرة النظام الحاكم نحو مصالحة مع جماعة الإخوان وبعض القوى المدنية المنفلتة التي أزاحها نظام السيسي بسبب ضعف الثقة. وتبقى تلك الإشكاليات مرهونة بمدى قدرة الحكومة على فتح المجال العام، وقدرة الأحزاب على التوسع والتمدد وملء الفراغ الناجم عن غياب القوى الحية خلال السنوات الأخيرة الماضية.
العرب