تُعد ظاهرة انتشار الإرهاب القضيةَ الأكثر تناولا في الإعلام العربي خلال الفترة الحالية، إذ أدت حالة عدم الاستقرار التي شهدتها دول الثورات العربية، وما رافقها من صعود لتيارات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في تلك الدول، ثم رحيلها السريع عن السلطة؛ إلى تصاعد نشاط التنظيمات المتشددة والجهادية مجددًا، مستغلة ضعف النظم السياسية في بعض الدول، واندلاع الأزمات السياسية في بعضها الآخر، وهو ما حظي باهتمام خاص من جانب الإعلام الذي وضع نفسه رقمًا مهمًّا في مواجهة تلك التنظيمات والفكر المتطرف والإرهابي، رغم أن تناوله لهذه الظاهرة فرض، في بعض الأحيان، تداعيات متباينة على مواجهة الإرهاب.
خبرة أمريكية:
عند الحديث عن تجارب سابقة لتناول الإعلام لظاهرة الإرهاب، وتأثير هذا التناول على انتشار الظاهرة؛ تبرز الخبرة الأمريكية في هذا الإطار، إذ إنه لا شك في أن الصور ومقاطع الفيديو التي بثها الإعلام الأمريكي للحظة اختراق طائرتين لبرج التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001، قد مثلت أهم آليات الترويج لتنظيم “القاعدة” الإرهابي، بشكل فاق وبكثير جهود التنظيم ذاته للترويج لنفسه ولأفكاره وتوجهاته إعلاميًّا، حيث كان لتنظيم “القاعدة” السبق في توظيف وسائل الإعلام التقليدية والحديثة لخدمة أهدافه والتعبير عنها، وذلك على الرغم من أن الإعلام الأمريكي هو من رفع في تلك المرحلة شعار “الحرب على الإرهاب”، وقدم نموذجًا للإعلام الداعم لتحركات الدولة، برغم كونه إعلامًا حرًّا غير تابع للأخيرة، وهو ما اتضح من خلال وقوف مختلف وسائل الإعلام الأمريكية -في بادئ الأمر- إلى جانب الخطوات التي أقدمت عليها الإدارة الأمريكية بالتدخل العسكري في أفغانستان ثم العراق، والمشاركة في تحالفات دولية لمحاربة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط.
تجارب عربية:
يبدو أن ثمة تشابهًا واضحًا بين الحالة التي اعترت الإعلام الأمريكي عقب أحداث 11 سبتمبر، وبين الحالة التي يبدو عليها حاليًّا الإعلام العربي، والتي تشير إلى وجود ارتباط وثيق بين التناول الإعلامي المكثف لظاهرة الإرهاب ومظاهرها، وبين انتشار الإرهاب في المنطقة.
ومما لا شك فيه، فإن تعامل الإعلام مع عمليات تنظيم “داعش” يقدم دليلا على ذلك. إذ يلاحظ اعتماد التنظيم في تحركاته بين المدن التي استطاع السيطرة عليها في سوريا والعراق وليبيا، على بث فيديوهات من شأنها إثارة الرعب في نفوس سكان هذه المدن، وبالتالي تسهيل سقوطها في أيدي عناصره من دون مقاومة، أو بمقاومة ضعيفة.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن الإعلام العراقي دعم هذه السياسة التي تبناها “داعش”، حيث ساعد، بشكل أو بآخر، في ترهيب المواطنين من خلال إعادة بث مقاطع الفيديو التي تظهر وحشية التنظيم في التعامل مع أفراد الجيش العراقي، والتأكيد على فرار قياداته وجنوده من مناطق المواجهة مع التنظيم، فيما كان لمشهد دبابات الجيش العراقي المصطفة على جانبي الطريق إلى الموصل وإلى جانبها ملابس الجنود الملقاة على الأرض، التي تخلوا عنها هروبًا من عناصر التنظيم، أثر كبير في نفوس سكان المحافظة.
غير أن تطورًا مهمًّا تبلور عقب سقوط جماعة الإخوان المسلمين في مصر، تمثل في تحول القنوات التابعة للجماعة والتي نشأت جميعها إبان وجودها في السلطة إلى منصات للتحريض على الدولة، والتهليل للهجمات الإرهابية التي تقوم بها الجماعات المتطرفة ضد قوات الشرطة والجيش، والتفجيرات التي تشهدها مناطق متفرقة من البلاد، لا سيما بعد أن انتقلت للبث من الخارج عقب إغلاق مقراتها في مصر، ووقف بثها بعد ثورة 30 يونيو 2013، واعتبار جماعة الإخوان المسلمين منظمةً إرهابيةً.
وفي مواجهة ذلك، عمل الإعلام الحكومي والخاص في مصر على إلقاء الضوء على هذه العمليات الإرهابية، وتكثيف بث مشاهد لما تُسببه من أضرار وتخلفه من ضحايا، في وقت يشير فيه الخبراء النفسيون إلى أن تكرار مشاهد العنف والقتل يؤدي إلى نقل المتلقي إلى مرحلة أخرى من التعود يفقد معها الشعور بالاستنكار لهذه الممارسات المتطرفة.
كما تُقدم الحالة التونسية دليلا إضافيًّا إلى ما سبق، ففي أعقاب تنفيذ العملية الإرهابية في متحف باردو في مارس 2015، والتي تبناها تنظيم “داعش”، وفشل أجهزة الأمن في منع الهجوم أو السيطرة عليه، أشارت تقارير عديدة إلى أن سياسة تضخيم التهديد الإرهابي التي تنتهجها وسائل الإعلام التونسية تفرض تداعيات عكسية تصب في مصلحة المتشددين والمتطرفين، خاصةً أنها تُساعد في الترويج لأفكارهم مما يؤدي إلى تحفيز فئات اجتماعية متظلمة إلى اتباع سبيل الخيار الإرهابي للتعبير عن مطالبها.
وما بين التهوين والتهويل في تناول الظاهرة إعلاميًّا، وبالتالي التأثير على صدقية التناول، بسبب طغيان البعد الدعائي على البعد الموضوعي، يقع المتلقون الذين يعتمد جزء كبير منهم على الإعلام لتشكيل توجهاتهم وآرائهم تجاه العديد من القضايا.
ويبدو أن الدعوة التي أطلقها بعض المتخصصين على غرار مراسل صحيفة “واشنطن بوست” ديفيد برودر، تعبر عن ذلك، حيث دعا إلى ضرورة “حرمان الإرهابي من حرية الوصول إلى المنافذ الإعلامية”، إذ إن تغطية العمليات الإرهابية إعلاميًّا بشكل مكثف تُعتبر بمثابة “مكافأة” للإرهابيين لأنها تتيح الفرصة لهم للوصول إلى قاعدة أكبر من الجمهور، الأمر الذي تتضاعف معه أهمية وضع استراتيجية إعلامية لمواجهة ظاهرة الإرهاب، وانتشارها، وتعديل أساليب تناولها الحالي الذي يعتمد على الصخب والإثارة، حتى لا يتحول الإعلام من وسيلة لمواجهة الإرهاب إلى وسيله للترويج له ومساعدته في ترويع المواطنين.
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية