فيينا – في شهر يوليو عام 2010، على مدرج الطائرات في مطار بالعاصمة النمساوية فيينا، سلمت واشنطن عشرة أعضاء من حلقة تجسس روسية أُلقي القبض عليهم أثناء عملهم للتسلل إلى الولايات المتحدة على أنهم “عملاء نائمون”.
شمل التبادل الروسية الصهباء آنا تشابمان، التي عرفت بلقب صاحبة الشعر الأحمر.
وفي المقابل، أطلقت روسيا سراح أربعة سجناء روس سُجنوا بسبب اتصالاتهم مع الغرب.
تمت العملية، وهي أول أكبر عملية تبادل سجناء بين البلدين منذ عام 1986، في وضح النهار، لا في منتصف الليل الحالك والسماء المملوءة بالضباب بين مسلحين يرتدون معاطف طويلة، مثلما يعرف عن مثل هذه العمليات خلال الحرب الباردة.
عاصمة الجوسسة
لا تشتهر العاصمة النمساوية بكونها أفضل المدن التي يطيب فيها العيش وبكونها مدينة الموسيقى والأحلام، بل هي أيضا، وكما تشير سيندني أوتيس محللة الشؤون الاستخباراتية في صحيفة دايلي بيست، عاصمة الجوسسة في العالم، فتاريخها طويل في هذا المجال المثير.
أصبحت فيينا في الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية مركزا أوروبيا لأنشطة التجسس، حيث تعتبر نقطة تجمع محورية بين سياسات الشرق والغرب. وجمع الرايخ الثالث في ما بعد الكثير من معلوماته الاستخباراتية عن جنوب وشرق أوروبا في فيينا.
ولأن النمسا بلد محايد، فإن فيينا كانت مركز التجسس في الحرب الباردة حيث كان باستطاعة الجانبين ممارسة أنشطتهما التجارية والتعامل بانفتاح مع كل منهما الآخر.
وكان يُنظر إلى العاصمة النمساوية على أنها مكان ممتاز لجمع المعلومات الاستخباراتية بسبب العدد الكبير من اللاجئين الذين يعيشون هناك والذين كانوا يائسين من كسب عيشهم، حتى إذا كان هذا يعني بيع معلومات لخدمات مخابرات أجنبية.
ومع هذه السمعة، تم استخدام فيينا كمكان لقصة التجسس المثيرة للمخرج والممثل الأميركي أورسون ويلز في عام 1949 والتي حملت عنوان الرجل الثالث (ذا ثيرد مان)، للمخرج كارول ريد. ويعد الفيلم أحد أشهر الأفلام البريطانية الكلاسيكية.
ويبيّن مسح أجراه خبراء في أنشطة التجسس في العاصمة النمساوية أنه يوجد ما لا يقل عن سبعة آلاف عميل سري في المدينة.
وتم شرح جاذبية هذه المدينة في فيلم الرجل الثالث عندما أشار الراوي إلى أن فيينا تسمح للعملاء بالقيام بأي شيء بحرية، حيث يقول “يمكننا القيام بأي شيء يريده الناس بالقدر الكافي، ونحن نمتلك المال لندفع”.
ويقول إيميلي بوبي مؤلف كتاب (الفراغ) (ذا فويد)، عن تاريخ الجوسسة في فيينا، إن الحيل التي ترعاها الدولة تعود إلى عصر الإمبراطورية النمساوية – المجرية. ولم يتم تحديث القوانين النمساوية قط على الرغم من انهيار الإمبراطورية، ونشوب حربين عالميتين، والمواجهة بين الشرق والغرب. ونتيجة لذلك، فإن أنشطة التجسس غير القانونية في النمسا هي التي تستهدف مباشرة أسرار الدولة النمساوية.
وقال بوبي “أي دبلوماسي في فيينا يمكن أن يكون على صلة بوكالات المخابرات في بلده أو في بلدها… فكل سفارة مكتظة بالشخصيات”.
جبهة مثالية
سيندني أوتيس: معظم أنشطة التجسس العالمية التي تتم في العاصمة النمساوية فيينا قانونية. وفي بعض الأحيان يمكن النظر إلى فيينا على أنها مصممة ليكون الفرار سريعا منها بعد ارتكاب جريمة
سيندني أوتيس: معظم أنشطة التجسس العالمية التي تتم في العاصمة النمساوية فيينا قانونية. وفي بعض الأحيان يمكن النظر إلى فيينا على أنها مصممة ليكون الفرار سريعا منها بعد ارتكاب جريمة
أوضح خيرت رينيه بولي، الرئيس السابق لمكتب حماية الدستور ومكافحة الإرهاب (بي.في.تي)، وهو وكالة مكافحة الإرهاب في البلاد، أنه يوجد سبعة آلاف شخص على المستوى الأساسي يمكن استكمالهم بآخرين مرتبطين بالتجارة.
وأضاف “فيينا بورصة معلومات، لدينا أكثر القوانين ليبرالية التي تحكم هذه الأنشطة في العالم، إنها أيضا مكان لطيف يعيش فيه الجواسيس مع عائلاتهم ويحصلون على تعليم جيد وخدمات صحية بعدما تقلدوا وظائف في أماكن صعبة في صربيا أو العراق أو أفغانستان”.
كبلد يستضيف مجموعة كبيرة من منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، فإن فيينا يوجد بها عدد ضخم من وفود الدبلوماسيين الذين يقدمون جبهة مثالية للتجسس؛ فهي لا تستضيف فقط الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تتعامل مع حظر الانتشار النووي، لكن تستضيف أيضا منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك).
وفي الوقت الذي تتحول فيه أهمية الأوساط المتداخلة للجواسيس مع الأحداث الدولية، فإن التنافس التقليدي بين روسيا والولايات المتحدة يظل أقوى ممارسة فردية حيث يحافظ الاثنان على أكبر عدد من الجواسيس. وتم الاعتراف بهذه الحقيقة ضمنيا عندما كانت فيينا وجهة للقيام بعملية تبادل الجواسيس الأربعة عشر.
ويقول بوبي “إن الحياة هنا هي جزء من ثقافة فيينا، المجتمع في العاصمة النمساوية مبني على الغموض وأشخاص يعيشون على الأسرار. فإذا كان لديك سر في فيينا، فأنت أحدهم”.
العرب