يرصد تقرير حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم لعام 2018، الصادر مطلع شهر سبتمبر الحالي، ارتفاعا في عدد الجياع بالعالم، حيث بلغ 821 مليون شخص في عام 2017، فيما يؤكد العلماء أن تأمين الغذاء لسكان العالم لن يكون بالأمر اليسير مستقبلا؛ مع ذلك تطل سحابة أمل وتفاؤل من أبواب المخابر العلمية تبشر بدور كبير ستلعبه التكنولوجيا الذكية في تغيير مستقبل الغذاء.
يبذل العلماء قصارى جهدهم للعثور على تقنيات ووسائل تؤمّن الإمدادات الغذائية الكافية وتتجاوز تهديدات التغير المناخي والظروف البيئية القاسية. يكمن التحدي الأكبر بالنسبة إليهم في إنتاج أغذية صالحة للأكل وبأسعار معقولة لسكان العالم الذين هم في تزايد مطّرد.
ووسط زيادة وتيرة الجفاف وارتفاع درجات الحرارة، وتأثيرهما على المحاصيل الزراعية وقطاع تربية الماشية وصيد الأسماك، وجدت الكثير من الدول نفسها في سباق مع الزمن لتحقيق أمنها الغذائي.
وتشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) إلى أن عدد سكان العالم ينمو بنسبة 240 ألف شخص في اليوم، ومن المتوقع أن يصل عددهم إلى ما يقارب تسعة مليارات نسمة بحلول 2050.
ويُجمع العلماء والحكومات على أن الناس في حاجة إلى مجموعة كبيرة من الحلول العاجلة لحماية أنفسهم من الجوع، وإذا لم تتحقق زيادة هائلة في الغذاء، يقابلها انخفاض في استخدام المياه والوقود الأحفوري، فإن مليار شخص أو أكثر سيعانون من مجاعة محققة، وخاصة في القارة الأفريقية.
ولا يبدو أن الدول العربية ستكون استثناء، فالتقرير الجديد للجنة الاقتصادية الاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا) منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، يؤكد أن معظم الدول العربية ستكون مضطرة إلى استيراد الغذاء لسد عجزها الغذائي. كما أن 40 بالمئة من السكان يعتمدون على الزراعة، في حين أن مساهمتها لا تتجاوز 7 بالمئة من الناتج المحلي.
ولعل أهم الأسباب ترجع إلى عدم استفادة معظم هذه الدول من الابتكارات التكنولوجية المتاحة في مجال الزراعة، فأغلب الزراعات في بعض الدول العربية، مازالت تعتمد على الممارسات التقليدية وترزح تحت رحمة التغيرات البيئية غير المتوقعة.
ولمواجهة التحديات المقبلة، أصبح تعديل النشاط الزراعي ليتكيف مع التغيرات المناخية من الضرورات الملحة، التي يجب أن تسير جنبا إلى جنب مع عمليات التنويع في مصادر الإنتاج، وذلك عن طريق توظيف التقنيات الزراعية المتطورة، والحلول المبتكرة للذكاء الاصطناعي مثل تطبيقات “إنترنت الأشياء” التي أصبحت معتمدة من قبل المزارعين في الدول الغنية.
من خلال هذه التقنية يستطيع المزارعون التحكم بدرجات الحرارة ونسبة الرطوبة وشدة الإضاءة اعتمادا على أجهزة استشعار وأجهزة أخرى، وهي وسائل أساسية، ولا يمكن الاستغناء عنها لاستشراف آفاق التنمية المستدامة.
التجربة الهولندية
من الدول التي استفادت من التقنيات المتطورة هولندا، الدولة الأوروبية الصغيرة، ذات الكثافة السكانية العالية (أكثر من 1300 ساكن في كل ميل مربع)، والموارد المحدودة، لكنها تمكنت من لفت أنظار العالم في المجال الزراعي، وهي الآن المصدر الثاني للأغذية في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية.
استطاعت هولندا أن تقدم نموذجا يحتذى في تحقيق الأمن الغذائي المستدام. فما السر الذي ساعد الهولنديين على تحقيق المعادلة الصعبة، والوصول إلى طفرة كبيرة من الإنتاج الغذائي.
عملت الحكومة الهولندية في العقدين الماضيين على الاستثمار وبقوة في مجال الزراعة العالية التقنية، وقدمت التزاما وطنيا بإنتاج ضعف كمية الغذاء مقابل نصف الموارد المتاحة. واستمر المزارعون في مواكبة هذا التحدي، وتم خفض الاعتماد على المياه بنسبة تصل إلى 90 بالمائة، وإنهاء الاستخدام التام للمبيدات الكيميائية، وجميع هذه الإجراءات المتبعة أتت ثمارها الآن.
ويرتكز التقدم الزراعي في هولندا على الدراسات الأكاديمية لجامعة فاغننغن، ومعاهد البحوث الزراعية السابقة التابعة لوزارة الزراعة الهولندية، وقد صنفت الجامعة الأفضل في هولندا، وفي جميع أنحاء العالم في مجال الزراعة لسنة 2017.
واتخذت هولندا خطوات عملاقة نحو احتضان أحدث التقنيات الزراعية، ومن بين الوسائل المتطورة التي يتكئ عليها قطاع الزراعة نذكر على سبيل المثال الجرارات دون سائق والطائرات دون طيار وأدوات الاستشعار الذكية التي توفر قاعدة بيانات وقراءات تفصيلية حول كيمياء التربة والمحتوى المائي ونمو النباتات.
وتم إنشاء العديد من البيوت المحمية ذات التقنية العالية، والتي تتحكم بالمناخ، فتزرع المحاصيل على مدار الساعة، وفي كل أنواع الطقس، ويغطي بعضها 175 فدانا من الأرض.
ويعتبر الخبراء الهولنديون أن الزراعة الحضرية تمثل أيضا حلا جيدا، وستكتسي أهمية كبرى في المستقبل، فمع حلول عام 2050 سيعيش 70 بالمئة من سكان العالم في المدن. ولذلك تحاول البلديات الهولندية تقريب مواقع الإنتاج إلى المستهلك لتقليل كلفة النقل والتلوث. وهي لديها حاليا في لاهاي أكبر مزرعة حضرية في أوروبا تبلغ مساحتها 1200 متر مربع من الخيار والطماطم، وستفتتح مزرعة أخرى في 2019 بمساحة 7000 متر مربع.
وتسعى الشركات الهولندية إلى الاستفادة من تقنية “الثنائيات الباعثة للضوء” أو “مصابيح الليد”، لتطوير المزارع الحضرية. وتلعب شركة الإضاءة “فيليبس” دورا رئيسيا في هذا المجال، حيث تمتلك أكبر مختبر للأبحاث في الزراعة الحضرية، ويقوم باحثو الشركة بتجربة مجموعة من المحاصيل تحت ظروف مناخ وإضاءة مختلفة.
يدرك الخبراء أن النباتات تستخدم من 1 إلى 2 بالمئة فقط من الطاقة الشمسية لتنمو، وبشكل أكثر دقة، موجات معينة من الطيف الضوئي ولا سيما اللون الأزرق والأحمر. وهذه الموجية الأطول يمكن أن توزعها مصابيح الليد بدقة عالية.
وبصرف النظر عن الاستهلاك المنخفض للطاقة، تمكن التقنية من اختيار أطياف ضوء محددة، حسب نوعية النبات، والطاقة اللازمة للنمو الأمثل. والنتائج مقارنة بالزراعة في الهواء الطلق، مثيرة للإعجاب، فعلى سبيل المثال ينمو 300 غرام من الخس تحت نظام الليد وبالأطياف الحمراء والزرقاء، خلال 4 أسابيع في مقابل 8 إلى 12 أسبوعا في الحقل، أضف إلى ذلك الجودة الغذائية العالية للمحاصيل.
حلول مبتكرة
شريك المؤسس ومدير التسويق في شركة إييروفارمز، الرائدة على مستوى العالم في الزراعة الراسية المغلقة بتقنية الليد في الولايات المتحدة، “تظهر الاختبارات مستويات أعلى من 109 بالمئة في فيتامين “أ” و252 بالمئة في فيتامين “سي” مقارنة بالمعدلات الوطنية في الحقل”.
ولا تتوقف فوائد تلك البيئات الزراعية عند الجودة الغذائية، بل تسمح أيضا بالإنتاج المستمر الذي يتجاهل الفصول، ويحرر نفسه من المبيدات، ويلغي كل مظاهر التلوث، ويؤدي إلى توفير كبير في الطاقة والمياه. ولمعالجة التحديات التي تفرضها زراعة الألبان، والتي تصطدم في المناطق الحضرية بمقاومة السكان المحليين، نظرا للضوضاء والروائح، تمكن الباحثون الهولنديون مؤخرا من إنشاء مشروع جديد، هو الأول من نوعه في العالم، ويتمثل في مزرعة عائمة، بميناء روتردام، والتي ستفتتح في المستقبل القريب.
صممت المزرعة من خلال شركة العقارات الهولندية بيلادون، وستستضيف 40 بقرة لتنتج 800 لتر من الحليب يوميا. وستتمتع الأبقار بالطابق الأول من المزرعة العائمة وتتغذى بالعشب المزروع في الموقع والنفايات الصناعية.
ويقول ألبرت بويرسن، مدير المزرعة، إن 80 بالمئة من طعام الأبقار سيأتي من النفايات الصناعية، والبقية سيتم إنتاجها في دفيئة عالية التقنية، وتشمل خاصة الطحالب الغنية بالبروتينات والتي تنمو بسرعة.
في الجهة الأمامية توجد ورشة عمل تهتم بالتعبئة والتغليف وتحويل الحليب إلى جبن ومشتقات أخرى، لتباع في المحلات التجارية القريبة. وتهدف المزرعة العائمة أيضا إلى استقلالية الطاقة، حيث سيتم تشغيل وحدة إنتاج الهيدروجين بالتحليل الكهربائي عن طريق الألواح الشمسية فوق السطح.
وستجلب العربات الصغيرة الطعام إلى الأبقار التي ستحلب بواسطة الروبوتات. وسيكون هناك الحاجة فقط إلى ثلاثة أشخاص لإدارة الأعمال. ورغم أن الزراعة الحضرية مزدهرة إلا أنها تعاني من نقص في المساحة، ويمثل هذا المشروع غير المألوف أسلوبا ابتكاريا يستجيب لمثل هذه التحديات.
يتجه العالم نحو مستقبل ستكون فيه العديد من البلدان النامية غير قادرة على توفير الغذاء لمواطنيها، وإن لم تمض تلك الدول بخطى حثيثة لتلتحق بركب التكنولوجيا الزراعية فمن المتوقع أن تنحو الأزمة الغذائية فيها نحو الأسوأ لتتفاقم أكثر في السنوات المقبلة، وقد يشكل ذلك بيئة خصبة لنشوب حروب أهلية، وصراعات تهدد الاستقرار والأمن العالميين.
العرب