د. عبد العزيز بن عثمان بن صقر
إن طبيعة العمل الاستخباراتي بجميع دول العالم تتسم بالخصوصية والسرية؛ حيث تعمل هذه الأجهزة عادة خارج القواعد والأطر المتبعة في الأجهزة الحكومية الأخرى، نظراً لطبيعة عملها، أي تكون هناك مساحة أمام هذه الأجهزة لتجاوز البيروقراطية الحكومية. وهذه التجاوزات هي ناتج طبيعي للبيئة الفريدة للعمل الاستخباراتي في جميع دول العالم دون استثناء، على أن تكون هذه التجاوزات مدروسة بعناية، وتحت سمع وبصر قيادة هذه الأجهزة، حتى لا تسيء عناصر من هذه الأجهزة استخدام السلطة، أو التصرف بما يمليه الهوى.
وأجهزة الاستخبارات ضرورة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، أو إهمالها، أو إضعافها. فمهمتها كبيرة ومهمة وتتمثل في: حماية أمن الدولة، ومصالحها العليا في الداخل والخارج، وحماية أمن المواطن. ودورها لا يقتصر على الجانب السياسي؛ بل يمتد أيضاً إلى مواجهة التهديدات ذات الطبيعة الجنائية، فالأمن الوطني لأي دولة لا يتجزأ ولا يبدأ من حدودها الجغرافية أو إقليمها؛ بل يبدأ من محيطها الإقليمي والدولي، ولا تنتظر أي دولة أن تأتي التهديدات والمخاطر إلى عقر دارها أو عند حدودها، وهنا يأتي دور الاستخبارات الذي يكتشف المخاطر، أو المؤامرات التي تُحاك للدولة من أعدائها أو خصومها، أو من المنافسين الإقليميين أو الدوليين. أي على أجهزة الاستخبارات توفير المعلومات الشاملة العميقة المتعلقة بالظواهر والقضايا السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والقانونية، وتقديم خيارات وبدائل لصانع القرار للتعامل مع هذه القضايا.
ومن بين أنشطة أجهزة الاستخبارات مواجهة ومنع جرائم استهداف أمن الدولة واستقرارها، ومحاولات تصدير أسباب زعزعة الأمن الوطني، واللعب على التركيبة السكانية، أو القضايا والأزمات الداخلية، بهدف تشتيت جهود الدولة وإشغالها، وإحداث حالة انكفاء داخلي. وكذلك من مهام الاستخبارات مواجهة وإجهاض جرائم جماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، وتهريب المخدرات، والأسلحة، والهجرة غير الشرعية، ومثيلاتها من النشاطات الإجرامية التي تهدد أمن المجتمع والدولة وتستهدف مواطنيها. لذا لا توجد دولة واحدة في العالم، صغرت أو كبرت، لا تمتلك أجهزة استخبارات لحماية أمنها واستقرارها ومواطنيها ومصالحها وأنظمتها.
ومع تطور ظاهرة الإرهاب العالمي وانتشارها، وتعقيد وتشابك تنظيماتها، أضيفت مهام جديدة على عاتق أجهزة الاستخبارات، فالمخاطر والتهديدات لم يعد مصدرها سلوك الدول الأخرى، أو نشاطات عصابات الجريمة المنظمة فقط؛ بل أصبحت التنظيمات الإرهابية تمثل تهديداً وجودياً للدولة والمجتمع والفرد على مستوى العالم، وأصبحت من بين المهام الكبرى للأجهزة الاستخباراتية، محاربة الجماعات الإرهابية، وحماية المواطن والمجتمع من شرورها وجرائمها، التي لم يعد لها حدود أو عليها قيود، وإن كانت أجهزة الاستخبارات العالمية، بصفة عامة، أقل كفاءة مما يجب في مواجهة التنظيمات الإرهابية، ما يتطلب بذل مزيد من العمل المنظم لجمع المعلومات الصحيحة والدقيقة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، لتحديد مكامن الخطر، ورصد وتعقب سياسات ومخططات الدول المارقة، والتنظيمات المتطرفة، لتفكيك وإحباط مخططاتها.
ومع تطور المخاطر وتعدد مصادرها وتنوع طبيعتها، طورت أكثر دول العالم أجهزتها الاستخباراتية، واستحدثت فروعاً وأضافت أعباءً ومهام جديدة لها، وأغدقت على توفير الإمكانيات والأدوات التي تسمح لها بالنجاح في أداء مهامها، مع توسيع صلاحياتها وسلطاتها. فالقيادات السياسية في دول العالم لم تكن أمامها خيارات كثيرة للتعامل مع تنامي وتنوع التهديدات والمخاطر، غير تعزيز قدرات الأجهزة الاستخباراتية، التي أصبحت الأداة الأساسية لحماية المواطن والمجتمع، وواكب ذلك زيادة التدريب والتأهيل للعناصر البشرية التي تعمل في هذا المجال، مع التدقيق في اختيار هذه العناصر أصلاً، واختيار أفضلها بما يتناسب مع طبيعة ومهام الدور الذي يقوم به عنصر الاستخبارات، إضافة إلى أهمية التنسيق وتبادل المعلومات مع الأجهزة المماثلة في العالم، كون العمل الإجرامي والإضرار بالدول ومصالحها واستهدافها، يحتاج إلى التنسيق والتعاون على مستوى دوائر كثيرة، حتى تنجح أجهزة الاستخبارات في القيام بدور «الإنذار المبكر».
وباعتبار أن مهام أجهزة الاستخبارات غاية في الخطورة والحساسية، فعمدت أكثر دول العالم إلى أن تكون هذه الأجهزة هي ذراع صانع القرار في الدول، وتكون تابعة له مباشرة، وتقدم تقاريرها بصفة منتظمة له، لتكون نافذته على الأحداث قبل حدوثها في كثير من الأحوال، أو التي في طور الحدوث أو التي حدثت؛ سواء كانت هذه التقارير على شكل مختصر تحمل معلومات مختصرة تقدم بشكل آني وسريع، أو تقارير مطولة، حسب كل حالة على حدة، وطبقاً لقراءة الموقف وتحديد أهميته وخطورته.
في واقع الأمر، ومن التجارب عبر التاريخ، هناك حقيقة أساسية يجب إدراكها، وهي أن الأجهزة الاستخباراتية في جميع أرجاء العالم، ما هي إلا مجموعة بشر، ما يسمح بوجود هامش للخطأ، فالحديث عن الأجهزة الاستخباراتية، هو الحديث عن مجموعة من الموظفين الذين عهدت إليهم الدولة تنفيذ مهام لصيانة أمنها ومصالحها واستقرارها، وحماية مواطنيها، وقد يشذ بعضهم عن طريق الصواب، ويمارس سلطات لم تمنح له، أو يسيء استخدام سلطاته المحددة، وقد يندفع نحو سوء استخدام سلطته، ويقع فريسة لنزوات الفساد الإداري والمالي، وهنا تأتي أهمية وجود ضوابط مدروسة تكون وفق المدرسة الاستخباراتية التي تناسب ظروف كل دولة، وتتمثل هذه الضوابط في العمل المؤسسي الذي له تقاليد صارمة، يكون فيها الولاء أولاً لمؤسسة الاستخبارات، أي الولاء لولي الأمر والدولة بكل معنى الكلمة، وأن تكون الأهداف عليا، وليس تحقيق مكاسب أو أمجاد شخصية لعنصر الاستخبارات، مع ضرورة وحتمية المراجعة الدورية لسلوكيات عناصر هذه الأجهزة، وهذا متبع في كل دول العالم، فانعدام الحسابات وتحديد المسؤوليات يقود إلى الأخطاء وتعاظمها، وتتحول معه الأجهزة التي يجب أن تكون أداة لحماية أمن الوطن والمواطن، إلى مصدر تهديد لأمن البلاد ومواطنيها وسمعتها الدولية، وربما إفشاء أسرار الدولة واختراق خصوصيتها، وإتاحة المعلومات السرية للخصم، سواء كان دولاً أو جماعات أو غير ذلك، وهذا في حال حدوثه يكون الانحراف عن الهدف الذي تأسست من أجله هذه الأجهزة.
في النهاية، إصلاح أجهزة الاستخبارات في العالم وإعادة هيكلتها بصفة دورية لا يجب اعتباره أمراً طارئاً، أو معيباً، أو قضية هامشية؛ بل هو شيء متبع بحكم الصيرورة وتغير المهام وتعاقب الأجيال، وتطور تكنولوجيا المعلومات وأدوات التواصل، وتعقيد طبيعة العمل الاستخباراتي، والمستحدث من المخاطر والتهديدات، وتعقيدات الجريمة المنظمة، وتشابك المصالح في العلاقات الدولية، وما يترتب عليها من خلافات بين الدول، ومن هنا يكون الإصلاح والتطوير وسد الثغرات مهمة صانع القرار وضمن مسؤولياته. وإذا كانت مؤسسات الدولة بصفة عامة تتطلب إعادة تأهيل وإصلاح بين وقت وآخر، فإن أجهزة الاستخبارات تأتي في مقدمة هذه الأجهزة؛ بل هي الأولى على سلم أولويات أي عملية إصلاحية، لكون مجال عملها يمس أمن واستقرار الوطن والمواطن وكرامته وحقوقه، بجانب حماية أمن الدولة واستقرارها، ومصالحها ومكتسباتها ومكانتها في المجتمع الدولي، ومن أجل تفويت الفرص على أعدائها، فلا يوجد أمن للدولة أو لمواطنيها في ظل أجهزة مترهلة أو جامدة وغير متطورة تستغل السلطة وتسيء استخدامها.