كان جورج هـ. و. بوش سياسيّاً ورجل دولة وقائداً، وكنتُ في موقعٍ مثيرٍ للاهتمام سمح لي بالتأمّل في كيفيّة اضطلاعه بكلٍ من هذه الأدوار. تعرفتُ عليه عندما كان نائباً للرئيس الأمريكي وكنتُ أعمل في فريق “مجلس الأمن القومي”. وعلى الرغم من انتمائي إلى الحزب الديمقراطي، طَلب منّي مع ذلك أن أترك “مجلس الأمن القومي” وأعمل مستشاراً في شؤون السياسة الخارجية لحملته الرئاسية عام 1988 – وهو منصبٌ تولّيتُه في 1 آب/أغسطس 1988، قبل ثلاثة أشهرٍ فقط من موعد الانتخابات. ولم تكن تلك الحقبة عصر الحملات المستمرة، ولم يكن ذلك الوقت زمن الاستقطاب السياسي الشديد. وبعد انتخابه، أصبحتُ مديراً لـ “هيئة التخطيط السياسي” في وزارة الخارجية الأمريكية، وطلب منّي الوزير جيمس بيكر الانضمام إليه عندما ترك منصبه كوزير للخارجية وذهب للعمل في البيت الأبيض في آب/أغسطس 1992 لمحاولة إنقاذ الحملة الانتخابية لإعادة انتخاب بوش.
كان بوش يميل إلى تقسيم العالَم بين السياسة والسياسات. فعندما قال له بيكر إنه يريد اصطحابي معه إلى البيت الأبيض في صيف عام 1992 للمساعدة في الحملة الانتخابية – ليس كمستشار في شؤون السياسة الخارجية بل لمساعدته على إدارة كامل الجهد السياسي، سأله بوش “لماذا دينيس، هل هو محترف؟”. لقد قام بوش بما عليه فعله سياسيّاً، لكنّه كان يحاول دائماً فصل قرارات الأمن القومي عن هواجس السياسات المحلّيّة. وقد يظنّ المرء أن ذلك ساذج أو حتى غريب نظراً لواقع اليوم، لكنّ الرئيس بوش كان صاحب أصولٍ قوية جدّاً لما هو صائب، وما هو مناسب. فقرارات الأمن القومي يتعيّن أن تُسترشد وفقاً للمصالح الأمريكية كما حدّدها مسؤلو الأمن القومي وليس وفقاً للكيفية التي يمكن أن تسير بموجبها اللعبة السياسية.
بعد أربعة أيام من الغزو العراقي للكويت، عندما قال بوش إن استحواذ صدّام حسين على تلك البلاد “غير مقبول”، لم يلقَ ذلك ترحيباً سياسيّاً – وواجه بوش معارضةً محلّيّةً حقيقيةً بينما كانت الولايات المتحدة تتّجه نحو استخدام القوة، وتحصل على دعم الكونغرس بهامشٍ بسيط. لكن بالنسبة له، كان ذلك اختباراً للعالَم ما بعد الحرب الباردة؛ هل كان يُعتبر ذلك شريعة الغاب أم معايير دولية؟ يتمثل الجواب في أنه كان عازماً على وجوب سيطرة المعايير الدولية.
كان يفهم التاريخ وصاحب خبرة كبيرة، حيث تولى رئاسة البعثة الأمريكية في الصين، وشغل منصب مدير “وكالة الاستخبارات المركزية” بالإضافة إلى قضائه ثماني سنوات كنائب للرئيس الأمريكي. وقد منحته تلك الخبرة شعوراً غريزياً بكيفية التعاطي مع القادة الآخرين.
لهذا السبب جزئيّاً، ولكن أيضاً بسبب ميله إلى الالتفات إلى حاجات الآخرين، كان صريحاً جدّاً عندما أخبرنا بأنه لن تكون هناك أي شماتة عند سقوط جدار برلين. فلم يكن يريد وضع الرئيس الروسي ميخائيل غورباتشوف في وضعٍ حرج، مدركاً أن ذلك سيجعل من الصعب عليه قبول ما أدركه بوش بأنه سيكون معقداً على السوفييت: أي توحيد ألمانيا في “حلف شمال الأطلسي” (“الناتو”). ولتفادي صدمات الماضي في أوروبا، كان بوش يؤمن بشدّة أن ألمانيا الموحّدة يجب أن تكون [عضواً] في حلف “الناتو”. فلا يمكن إعاقة التوحيد خشية أن يؤدي إلى حدوث استياء عميق في ألمانيا. ومع ذلك، أدرك بوش أيضاً أنه يجب ألا تصبح ألمانيا موضوعاً للتنافس بين الكتل؛ ولا يمكن أن تبقى حياديةً وبالتالي تحتاج إلى أسلحة نووية لضمان أمنها الخاص.
في ذلك الوقت، اعتَقَدَ عدد قليل من المراقبين أنه كان من الممكن جعل السوفييت فضلاً عن البريطانيين والفرنسيين (الذين أضمروا في نفسهم أيضاً خوفاً من قيام دولة ألمانية معززة حديثاً) يتقبّلون نتيجة يتم بموجبها دمج ألمانيا الموحدة في حلف “الناتو”. لكنّ بوش وبيكر نجحا في تخطّي هذه الصعوبة – حيث صاغا الهدف بطريقة جعلت كل الآخرين يتعاملون معه وباشرا بعملية دبلوماسية مكثّفة عالجت احتياجات جميع الأطراف وهواجسهم في حين كانا يبنيان زخماً لا يقاوم وراء جهودهما.
وبالنسبة إلى بوش كانت هذه هي القاعدة إلى حدٍ كبير، أي التركيز على كيفية حشد الآخرين لدعم الأهداف الأمريكية وبالتالي منحهم شرعيّةً ووزناً أكبر بكثير على الصعيد الدولي. وهكذا احتلّت أمريكا الصدارة من خلال إدراكها مصالح الآخرين واحتياجاتهم، وعدم حرمانهم أبداً من المجال السياسي الذي يحتاجونه لاتّخاذ قرارات صعبة من أجل دعم الولايات المتحدة.
ليس من المستغرب أن تكون صفاته الشخصية قد ساعدته مع القادة الآخرين. فإذا أخذ على عاتقه التزاماً ما، كان حلفاؤه وخصومه يدركون أنه باستطاعتهم الاعتماد عليه. فعلى سبيل المثال، كان عاهل السعودية الملك فهد قلقاً في البداية من قبول القوات الأمريكية داخل المملكة بعد غزو الكويت – فكخادم الحرمين الشريفين، قد يعني اتخاذه مثل هذا القرار أنه بحاجة إلى “غير المؤمنين” [“الكفّار”] لحماية الحكومة على الأراضي السعودية. إلا أن وعد بوش بمغادرة المملكة حالما تدحر الولايات المتحدة العدوان العراقي كان جيداً بما فيه الكفاية للعاهل السعودي.
كانت كلمته جديرة بالثقة. فقد كان يُظهر مستوىً رفيعاً من النزاهة واللياقة. وقد فهم القادة الأجانب ذلك وشعروا بهما، وهو الأمر بالنسبة إلى خصومه السياسيين المحلّيّين. وربما كان أداؤه قاسياً أحياناً من الناحية السياسية، لكنّه لم يحط من قيمة خصومه – وعندما كان يتعرّض لهجوم سياسي في الولايات المتحدة، طالما أدهشني في عدم أخذه تلك التهجّمات بشكلٍ شخصي.
لقد آمن جورج بوش الأب بنزاهة أمريكا وشعبها، وشعر أنه مدينٌ بالكثير للولايات المتحدة. ولمس بأن الخدمة الحكومية هي شرفٌ وواجبٌ على السواء. وبعد أن خسر الانتخابات عام92، كتب لي رسالةً شكرني فيها على كل أعمالي الحسنة في الإدارة الأمريكية، لكنه حثّني أيضاً على الاستمرار في الخدمة مع إدارة كلينتون القادمة، إذا طُلب مني ذلك – تلك الإدارة التي قال إنها ستحترم أيضاً عملي معه.