لم تكن ساحة التحرير وسط بغداد ونصبها “الحرية” بالنسبة للكاتب والمخرج التلفزيوني علي السومري مجرد ساحة ونصب فقط، فهما بقعة جغرافية يمكنه خلالهما البوح والصراخ بما يطمح إليه من أجل وطن نهبه الساسة وتكالب عليه أصحاب العقائد الجديدة.
“هذا النصب هو الشاهد الحقيقي على محاولاتنا الحثيثة لإنقاذ العراق من الغرق في الدم، وإعادته لسكة الديمقراطية ليكون البلد الذي طالما حلمنا به سابقا”، كما يقول السومري للجزيرة نت.
لم يختر السومري ورفاقه من المتظاهرين ساحة التحرير موقعا لاحتجاجاتهم بسبب قربها من مقر الحكومة العراقية والسفارات الأجنبية في المنطقة الخضراء ببغداد وحسب، بل لما تمثله لهم كعراقيين من معنى الحرية التي افتقدها هذا الشعب طوال عقود.
أهميتها
وتعد ساحة التحرير الواقعة في منطقة الباب الشرقي؛ واحدة من أهم الساحات الرئيسية للعاصمة بغداد، وسميت بهذا الاسم نسبة لدعوى التحرر من الظلم والطغيان بحق الشعوب.
وفي جانبها الشرقي نصب الحرية، النصب الأكثر شهرة في بغداد، والذي صممه ونفذه النحات العراقي جواد سليم، ليشهد تحته عشرات الانتفاضات والاحتجاجات والثورات.
ويحوي نصب الحرية 14 قطعة، ترمز إلى انتفاضة 14 يوليو/تموز 1958، التي تعد شرارة الانتفاضات العراقية. ويعبر النصب عن الاعتقال والتعذيب في السجون، وسجين ينتزع القضبان، وآخرين يرفعون قبضة الحريّة، وغير ذلك من معاني التحرر من الاستعباد.
السومري يقول إن ساحة التحرير ترمز لمعنى الحرية التي افتقدها العراقيون طوال عقود (الجزيرة)
الضرب مقابل الحقوق
شارك علي السومري التظاهرات العراقية منذ انطلاقتها الأولى في فبراير/شباط 2011، مستمرا دون هوادة أو يأس، ليصبح أحد مؤسسي وقادة مظاهرات 2015 والتي تعد أقوى ما حدث في العراق بعد الغزو الأميركي للبلد عام 2003.
يقول السومري “نصب الحرية هو الشاهد الحقيقي على اضطهادنا ومحاصرتنا وضربنا واعتقالنا من قبل الفاسدين في جميع المظاهرات، لا لشيء فقط لأننا طالبنا بإصلاح المنظومة السياسية التي أوصلتنا إلى الخراب الذي يحاصرنا اليوم من جميع الاتجاهات، لم نكن تحت هذا النصب مجموعة من المثقفين والفنانين، بل كنّا صوت العراق، وقف العراقيون بشرائحهم المختلفة، ومناطقهم المختلفة، وقومياتهم المختلفة، تحت نصب الحرية وتظاهرنا سوياً من أجل عراق وهبنا كل شيء فلم نمنحه سوى الخيبة”.
ويؤكد السومري أن هذه الساحة لن تتوقف عن اجتذاب كل الطامحين إلى التغيير المنشود، وستبقى مع نصبها الخالد محط أنظار كل من يطمح إلى تغيير الواقع البائس نحو الأفضل.
في حين تسترجع ذكرى سرسم، وهي ناشطة مدنية، أول دعوة للتظاهر في ساحة التحرير عام 2011، حيث اتخذ المتظاهرون الساحة مقرا لمطالبهم، بسبب رمزية نصب الحرية والتأثير الذي تركه لارتباطه بميدان التحرير في مصر، وشرارة الثورة التي انطلقت في 25 يناير/كانون الثاني 2011، حيث انطلقت بعدها مباشرة أكبر التظاهرات العراقية تأثيرا في 25 فبراير/شباط 2011.
وتضيف أن “النصب اليوم أصبح مزارا مهما ومعلما يعتز به كل عراقي، واتخذت منه أغلب وسائل الإعلام شعارا يرمز إلى الثورة على الفساد، وحاول الكثير من السياسيين تلميع صورتهم من خلال استخدام النصب كشعار لحملة انتخابية أو توظيفه بطريقة أو بأخرى.
وترى سرسم أن الحكومة باتت تحاول استخدام مكان ساحة التحرير ونصبها في الحملات، واتخذت مفوضية حقوق الإنسان جزءا من النصب شعارا جديدا لها.
لم يمنع أحد انفجارات بغداد الصحفي عماد الشرع من توجهه بعكازين لساحة التحرير للتظاهرات التي انطلقت في يوليو/تموز 2015 لمساندة المظاهرات التي حدثت جنوب العراق في البصرة تحديدا لسوء الخدمات وانقطاع الكهرباء والماء في فصل يكاد يكون الأكثر حرارة خلال العام.
ويشير الشرع إلى أن أبرز المظاهرات والوقفات الاحتجاجية التي شهدتها هذه الساحة كانت في عامي 2011 و2015 وما بعدها، والتي أسهمت بشكل كبير في تغيير الكثير من سلوك ورموز إدارة الدولة.
ويرى الشرع أن التظاهرات تمكنت -ولو بجزء قليل- من إيصال صوتها، كما أنها كانت مبررا للاحتجاج ضد أي تصريح أو قرار يطلقه المسؤولون، ليتمكنوا من إلغائه بصوتهم الحر.
استطعنا الصراخ في وجه قراراتهم، شعروا بحقيقة تهديد كراسيهم ومناصبهم، لذا أصبحوا يعدون العدة لكل قرار منهم من خلال تشديداتهم الأمنية وأسلاكهم الشائكة، عند كل جمعة يغلقون جميع الطرق المؤدية إلى التحرير لتقليص عدد المتظاهرين لأقل عدد ممكن، لكن الحشود المليونية تتجه إلى قبلتهم كل مرة”.
دلالة عميقة
وتذكر هذه الساحة الفنان المسرحي مناضل داود بالعيد وطفولته، وحتى مراحل دراسته في معهد الفنون الجميلة.
ويقول “أول يوم من دراستي في معهد الفنون الجميلة كان نصب جواد سليم يقف في باب المعهد، كما لو كان يستقبل الطلبة الجدد، وحين أخذتني القراءة وعالم الثقافة والفن تفهمت أكثر معنى ودلالة وعمق ذاك الواقف يستقبل الطلبة، إنه جواد سليم صاحب نصب الحرية المعلم الذي نتباهى به أمام الآخرين.
ويرى أن الساحة هي قلب بغداد وروحها السياسية منذ الستينيات، إضافة إلى قربها من المنطقة الخضراء، وهو في حد ذاته تحد للحاكم، ويرى أن تظاهرات 2011 هزت الطبقة الحاكمة، وكانت الأصدق والأكثر براءة من مظاهرات 2015، التي تم تسييسها في ما بعد، ودخل إليها العديد من المنحازين سياسيا لتفقد مطلبها الأساسي.
وترتبط ساحة التحرير عند الصحفية أفراح شوقي وعضوة منظمة العفو الدولية بذاكرتها عندما توحدت الأصوات في الساحة نفسها من أجل الضغط للمطالبة بإطلاق سراحها بعد خطفها من قبل مليشيات بسبب آرائها.
وتؤكد أفراح بأسف أن “السلطات راحت تجيش الجيوش والقوات لأجل تقويض التظاهرات والاحتجاجات وإفشالها وتخريبها، لكنها لم تستطع إخمادها، وبقيت ساحة التحرير ملاذ المواطن المقهور والمطالب لحقوقه”.
وتكمل للجزيرة نت “معظم القنوات الإعلامية لمست أهمية تلك الساحة فصارت المكان الأمثل لإنجاز تقاريرها الصحفية ومعرفة نبض الشارع، فهي إضافة إلى موقعها الحيوي وسط بغداد، غدت رمزاً لرفض القهر وإطلاق المظلومية.
الجزيرة