مُنيت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بهزيمة قوية غداة رفض الأغلبية الساحقة في مجلس العموم البريطاني المصادقة على الاتفاق الذي أبرمته للخروج من الاتحاد الأوروبي. ورغم أن الهزيمة كانت متوقعة إلا أنها أثارت الكثير من الجدل والاستياء والحيرة، مما دفع البلاد إلى مزيد من الفوضى السياسية قبل 10 أسابيع فقط من الموعد الذي تقرر فيه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يسطر هذا الرفض مصير تيريزا ماي، ويعيد الحديث عن مستقبل بريطانيا والاتحاد الأوروبي إلى مربع الحديث عن مواجهة المجهول، ومعضلة صفقة أو لا صفقة.
ولا تقف الحيرة عند البريطانيين فقط بل تظهر أيضا من خلال مواقف الاتحاد الأوروبي، التي تظهر حزما وليونة في نفس الوقت. من جهة تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن رفض إعادة التفاوض بشأن الاتفاق، ومن جهة أخرى قال رئيس الوزراء الهولندي مارك روته إن تأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يكون ممكنا لضمان التوصل لاتفاق، فيما دعا رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود-يونكر بريطانيا إلى “توضيح نواياها في أسرع وقت ممكن. لم يعد هناك الكثير من الوقت”.
ويشير المراقبون إلى أن غالبية الشعب البريطاني، والأغلبية في البرلمان، يريدون نوعا ما من العلاقات الوظيفية مع الاتحاد الأوروبي بعد الخروج منه. لكن “الوهم” بأن هزيمة ماي قد تكون هزيمة للاتحاد الأوروبي، يمكن أن تحدث عكس ما تريده الأغلبية، الخروج دون صفقة، وبالتالي اعتماد أسوأ السيناريوهات، والدخول في مرحلة جديدة لا يمكن التنبؤ بها بشأن الانفصال.
ويشير المحللان في صحيفة نيويورك تايمز، تيفين كاسيل وإلين باري، إلى أن التفاوض على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، الذي أيّده نسبة 52 بالمئة من الناخبين البريطانيين، في استفتاء عام 2016، كانت المسألة التي أولت لها ماي الأولوية الأولى منذ أن أصبحت رئيسة للوزراء، مما نتج عنه تجاهلها لحل المشاكل الاجتماعية الأخرى مثل الإسكان والرعاية الصحية. لكن إخفاقها في نقل أي رؤية مقنعة لمستقبل بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي قد سمح بتعميق الانقسامات في البلاد. كما نتج عنه أيضاً احتمال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون عقد اتفاق، وهو ما حذّر المحللون من أنه قد يدفع بريطانيا إلى الركود ويؤدي إلى نقص الغذاء والدواء والكهرباء بسبب فرض القيود على التجارة.
وكانت خطة ماي في نهاية المطاف ستعطي الحكومة البريطانية قدرة التحكم في الهجرة إليها من أوروبا، وكانت ستبقي ببريطانيا في نظام الجمارك والتجارة الموحد للاتحاد الأوروبي حتى نهاية عام 2020 على الأقل في حين يتم التفاوض على اتفاق طويل الأجل.
لم تحصل الاتفاقية التي توصلت إليها تيريزا ماي إلا على تأييد 202 من الأعضاء فيما رفضها 432 نائبا، منهم حوالي 110 نائبا محافظا، في “أثقل هزيمة تلحق برئيس حكومة بريطاني منذ العشرينات”، وفق صحيفة الغارديان. ويغرق هذا التصويت التاريخي بريطانيا في المجهول بخصوص مستقبلها قبل شهرين ونصف الشهر على بريكست المرتقب في 29 مارس 2019.
ويعدّ الفارق في الأصوات أكبر هزيمة لرئيس وزراء في مجلس العموم في تاريخ بريطانيا الحديث، وهو يؤكد على الطريقة التي فشلت بها ماي في بناء توافق في الآراء ورؤية موحدة لكيفية الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وسبق هذا الرفض، سلسلة من الهزائم البرلمانية التي تلقي بظلال الشكّ حول مستقبل ماي السياسي واستمرارية حكومتها. فمن النتائج المباشرة لرفض البرلمان للاتفاق الذي أبرمته ماي مع بروكسل، طلب حجب الثقة عن الحكومة، حيث قدّم حزب العمال المعارض مدعوما بأحزاب معارضة أصغر حجما طلبا للتصويت على سحب الثقة من الحكومة جاء فيه “هذا المجلس لا يثق في حكومة جلالة الملكة”.
وفي ظل الظروف العادية، يُتوقع أن يستقيل رئيس الوزراء البريطاني بعد أن خسر التصويت على مثل هذه السياسة. لكن عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أدت إلى حدوث خلل في الاتفاقيات السياسية التي مكّنت ماي من البقاء في الحكومة من أجل إجراء مراجعات ومفاوضات بشأن صفقتها من جديد.
ورغم الدعم الذي لقيته تيريزا ماي من جانب عدد كبير من النواب، إلا أن المراقبين يؤكدون أن وحتى لو لم تحجب الثقة، فإن الخطوات المقبلة لرئيسة الوزراء مازالت تعتبر خطيرة.
ورأى كاتب الافتتاحية في صحيفة تايمز ماثيو باريس أنه آن الأوان لكي يتولى البرلمانيون المعارضون ملف بريكست. وكتب “ليس هناك أي قيادة، لا داخل الحكومة ولا في المعارضة قادرة على مساعدتنا على الخروج من هذا المستنقع″، فيما وصف جيريمي كوربن نتيجة التصويت بأنها “كارثية”، إلا أنه ورغم تأييد كثيرين، سواء من معارضي بريكست أو مؤيديه، ومن مؤدي ماي ومعارضيها، إلا أن الأمر لا يعني دعم مشروعه لقيادة بريطانيا.
ورغم صحة ما ذهبت إليه صحيفة ديلي مايل، المحافظة المؤيدة لبريكست، بأن مصير تيريزا ماي بات “معلقا على خيط”، تبدو رئيسة الوزراء آمنة في الوقت الراهن، ولا يبدو أن البديل سيكون زعيم حزب العمال، لأن حزب المحافظين، وحتى أعضاءه المعارضين لماي، وحليفه الحزب الوحدوي الديمقراطي، في أيرلندا الشمالية، لا يرغبان في أن يحل محلهم حزب العمال في قيادة البلاد، كما يدعم شركاء الحزب الديمقراطي الليبرالي، الذين صوتوا ضد اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي رئيسة الوزراء. وقالت المجموعة الأوروبية للأبحاث، التي تضم نوابا مؤيدين لبريكست، والتي عارضت اتفاق ماي، إنها تؤيدها.
ويخشى كثيرون من تعقيد أكثر للوضع في ظل مواقف كوربن المتشددة من الاتحاد الأوروبي، وهو أمر لا يحبذه الأوروبيون أيضا الذين يفضلون، ليونة تيريزا ماي، التي لم تكن من مؤيدي البريكست، على شعبوية زعيم حزب العمال، الذي صوت ضد بريكست في 2016، مع غالبية حزبه لكنه وصف الاتحاد الأوروبي بأنه “أداة الرأسمالية النيوليبرالية”، الأمر الذي قد يعطي أملا في إعادة التفاوض أو ربما في القبول بإجراء استفتاء آخر على الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وحدة الأعضاء الـ27
Thumbnail
اعتبر بوريس جونسون، وزير الخارجية السابق وأكثر المؤيدين لبريكست، أن نتيجة التصويت تعطي تيريزا ماي “تفويضا قويا” للعودة والتفاوض مع الاتحاد الأوروبي، لكن من غير المؤكد أن بروكسل ستكون جاهزة لهذا السيناريو.
فقد كرر رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود- يونكر القول إن الاتفاق الذي رفض “كان يشكل تسوية منصفة وأفضل اتفاق ممكن” قبل أن يقول إن “مخاطر حصول بريكست دون اتفاق تزايدت”.
وقال كبير المفاوضين الأوروبيين بشأن بريكست ميشال بارنييه “يعود الآن إلى الحكومة البريطانية أن تقول ما هي المرحلة المقبلة. إن الاتحاد الأوروبي لا يزال متحدا ومصمما على التوصل إلى اتفاق”.
وبدا الرئيس الفرنسي أكثر حزما حين أعرب في تعليقه على القرار البريطاني برفض الاتفاق عن تشككه في أن الاتحاد الأوروبي سيعيد التفاوض بشأن اتفاق رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي لخروج بلادها من التكتل.
ماثيو باريس: آن الأوان للنواب الكبار كي يتولوا عملية بريكست
ماثيو باريس: آن الأوان للنواب الكبار كي يتولوا عملية بريكست
وقال الرئيس الفرنسي “يجب في مطلق الأحوال أن نتفاوض معهم حول فترة انتقالية لان البريطانيين لا يمكنهم تحمل أن تتوقف الطائرات عن الإقلاع أو الهبوط على أراضيهم كما أن متاجرهم تؤمن إمداداتها بنسبة 70 بالمئة من أوروبا القارية”. وطلب من القادة البريطانيين البحث عن مخرج للأزمة بأنفسهم وتمنى لهم “حظا سعيدا” في إيجاد طريقة للخروج من الاتحاد الأوروبي في 29 مارس.
وبينما أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل معارضتها إعادة التفاوض بشأن اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، دعت أنيجريت كرامب-كارينباور، رئيسة الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني، إلى استجابة حذرة لرفض البرلمان البريطاني بوضوح لاتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي تم التفاوض عليه بين التكتل ولندن. وقالت كرامب-كارينباور، “لا بد لنا الآن أن نتحلّى بتمالك الأعصاب حتى لو كنّا في حالة حزن شديد اليوم”.
وأضافت الزعيمة المحافظة التي تم انتخابها مؤخرا لتحلّ محلّ المستشارة أنجيلا ميركل على رأس الحزب المسيحي الديمقراطي، “كنّا نخشى مجيء تصويت كهذا، لكن مجيئه بمثل هذه الأغلبية الواضحة يمثّل وضعا خاصا”.
وتحدثت كرامب-كارينباور عن “مساء حزين”، ووجهت حديثها للبريطانيين قائلة “إنه قرار يؤلمنا. ونقول سنكون سعداء إذا بقيتم (في الاتحاد الأوروبي) أيا كان الوقت الذي تتخذون فيه هذا القرار”.
وجاءت تصريحات المسؤولين في بروكسيل، أكثر ليونة، واعتبرها البعض من المراقبين بمثابة الدعوة المبطنة لبريطانيا إلى مراجعة مواقفها. واعتبروا أن في قول المتحدث باسم المفوضية الأوروبية، مارغريتس شيناس، إنّ بريطانيا لم تطلب تمديد الفترة المحددة لخروجها من الاتحاد الأوروبي، في 29 مارس المقبل، دعوة إلى طرح هذا الأمر.
وقال شيناس إن “قدّمت بريطانيا طلبا بتأجيل الموعد المحدد للخروج، ووضحت الأسباب الداعية لذلك، فإنّه من الممكن للدول الأعضاء الـ27 في الاتحاد الأوروبي أنّ تصوت بالإجماع على هذا الطلب”.
الفارق في الأصوات يعد أكبر هزيمة لرئيس وزراء في مجلس العموم في تاريخ بريطانيا الحديث، وهو يؤكد على الطريقة التي فشلت بها ماي في بناء توافق في الآراء ورؤية موحدة لكيفية الخروج من الاتحاد الأوروبي
وأشار إلى أن الكرة في ملعب بريطانيا، وأنّ الخطوة القادمة يجب أن تأتي من لندن. ولفت إلى أنّ الاتحاد الأوروبي لا يرغب بخروج بريطانيا من دون اتفاق، مبينا في نفس الوقت وجود احتمال كبير لحصول ذلك.
وكتب جيم أيدواردس، في صحيفة بيزنس انسايدر، إن الاتحاد الأوروبي سيعاقب بريطانيا إثر هزيمة ماي، بـ”سعادة”، مشيرا إلى أن الموقف الأغلبية البريطانية يأتي عكس ما يريده الاتحاد الأوروبي، وستكون المادة 50 هي الفصل. والمادة 50 هي مادّة قانونية وليست تفاوضية.
وهذه المعضلة أشبه بإجراء قضائي، حيث يقرر الاتحاد الأوروبي الحكم على المملكة المتحدة. وإذا كانت بريطانيا تعتقد بأن الاتحاد الأوروبي سيبدأ في التنازلات، فقد تخرج منه دون صفقة، وهذا هو أسوأ سيناريو.
وحذر أيدواردس من أن بريطانيا قد تخدع نفسها بالاعتقاد بأن تصويت ليلة الثلاثاء “يغير كل شيء”، بل قد يصبح الوضع شبيها بالمغالطة اليونانية. وبالمثل، وصف دنكان روبنسون، مراسل صحيفة فاينانشيال تايمز في بروكسل، هذا الوضع بـ”المغالطة اليونانية”، أي الاعتقاد الخاطئ بأن التصويت المحلي يعطي حكومة وطنية بطريقة أو بأخرى موقفا تفاوضيا أقوى من ذي قبل.
عندما مرت اليونان بأزمة الديون، أجرت أربعة انتخابات وطنية واستفتاء واحد في محاولة لتجنب خطة إنقاذ عقابية من الاتحاد الأوروبي. أعطى كل منها البلاد “ولاية” لتأمين صفقة أفضل لليونان. تجاهل الاتحاد الأوروبي كل واحد منها، ودفع البلاد إلى أزمة اقتصادية أسوأ من الكساد الكبير لاستعادة أموالها.
هل سيكون هناك استفتاء ثان
تعارض ماي فكرة أن يكون هناك استفتاء ثان، ويتباطأ كوربن في المطالبة بذلك. لكن عددا كبيرا من أعضاء البرلمان من حزب العمال يقولون إنه من الضروري العودة إلى استفتاء الشعب.
وتدعو حركة تصويت الشعب إلى إجراء استفتاء ثان للتصديق على أو رفض أي اتفاق خروج. في استطلاع جديد للرأي، نشرته صحيفة الإندبندنت في نهاية الأسبوع الماضي، يريد 46 بالمئة من الناخبين إعادة استفتاء.
Thumbnail