يرى البعض أن المحادثات الجارية حاليا بين حركة طالبان والولايات المتحدة الرامية لإنهاء الحرب الأفغانية مؤشر على استيعاب الطرفين بعضا من دروس أطول حرب تخوضها الولايات المتحدة، إن لم تكن أطول حرب يسجلها العالم في العصر الحديث.
فقبول حركة طالبان الشراكة في السلطة مع الآخرين يفسَّر بمحاولتها تجنب تكرار الفوضى التي عمت البلاد عقب سقوط حكومة نجيب الله الموالية للاتحاد السوفياتي عام 1992، وهو ما يميز محادثات الدوحة عن محادثات جنيف حيث كانت أحزاب المجاهدين ترفض الشراكة مع النظام الأفغاني المتداعي وتصر على الحسم العسكري.
وفي المقابل، تحاول الولايات المتحدة طمأنة حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني بعدم تجاوزها عند الحديث عن مستقبل أفغانستان، مع رغبة أميركية ملحة بالانسحاب من أفغانستان مقابل ضمان عدم عودة المنظمات التي تصنفها أميركا “إرهابية”.
ولفهم ما يجري حاليا، لا مناص من الرجوع للماضي قليلا، ففي الوقت الذي كانت فيه القوات السوفياتية تنسحب من أفغانستان يوم 15 فبراير/شباط 1989، أثير جدل واسع في أوساط قوى المجاهدين بشأن المصالحة الوطنية التي أعلن عنها الرئيس الأفغاني وقتذاك محمد نجيب الله.
الحسم العسكري
وكانت رسالة القوى الأجنبية إلى قادة أحزاب المجاهدين، الذين كانوا يتخذون مدينة بيشاور الباكستانية مقرا لهم، أن الشعب الأفغاني سئم الحرب، وأن الوقت حان للواقعية والتخلي عن شعارات الحسم العسكري مع الحكومة الأفغانية الموالية للروس.
لكن في ندوة كانت تناقش مستقبل أفغانستان بعد الانسحاب السوفياتي، أخذ الحديث منحى الواقعية، وهي المصالحة مع حكومة نجيب الله وتشكيل حكومة مختلطة “ذات قاعدة عريضة”، وهو الطرح الذي كانت تتبناه الأمم المتحدة سابقا، وتتبناه الولايات المتحدة حاليا.
وقف شاب أفغاني في الندوة المذكورة متحدثا بواقعية أفغانية مجردة، وقال إن الشعب الأفغاني مستعد للاستمرار في الحرب 20 سنة أخرى ما لم تتحقق الأهداف التي بدأ الجهاد من أجلها، وهي “تحرير أفغانستان من القوات الروسية، وإسقاط الحكومة العميلة، وإقامة حكومة إسلامية حرة مستقلة”.
وفي الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2001 بدأت الصواريخ الأميركية تغطي سماء أفغانستان، وبينما كان حلفاء أميركا يقدرون مدة الحرب الجديدة بأسابيع وأشهر، كان خبراء في الشأن الأفغاني يؤكدون ثقتهم بأنها حرب مفتوحة بلا نهاية.
الحرب الأهلية
ولأنها لم تكن تعترف بالحكومة الأفغانية، رفضت أحزاب المجاهدين الأفغان المشاركة في محادثات جنيف برعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، فوقعت باكستان نيابة عنهم اتفاقية جنيف الشهيرة يوم 14 أبريل/نيسان 1988، التي ضمنت انسحاب القوات الروسية من أفغانستان في غضون تسعة أشهر مقابل وقف تسليح المجاهدين.
وبمجرد انسحاب السوفيات من أفغانستان تراجع الاهتمام الدولي بباكستان، وعزز هذا التراجع انهيار الاتحاد السوفياتي سريعا، وكان على إسلام آباد أن تتحمل عبء مسؤولية القضية الأفغانية وحيدة، بل فرضت الولايات المتحدة سلسلة عقوبات على باكستان بدأت بسبب برنامجها النووي، وتواصلت بتهم الإرهاب والانقلاب العسكري عام 1998 وغيرها الكثير.
وزاد الوضع سوءا اندلاع الحرب الأهلية في أفغانستان، وتحولت مجموعات المجاهدين إلى قطاع طرق يفرضون أتوات على الناس ويعيثون في الأرض فسادا، وفي هذا الظرف الحالك خرج من رحم المدارس الدينية من كانوا يعرفون بالأطهار في المجتمع الأفغاني، وهم طلابها الذين لم تتلوث أياديهم بدماء الأبرياء، ولم يسطوا على أموالهم وأعراضهم.
وقد تشجع الغرب لدعم هذه الحركة الناشئة، وابتزت بها الولايات المتحدة ومعها باكستان والسعودية أحزاب المجاهدين السابقين لتحقيق مصالحها في أفغانستان الاقتصادية والعسكرية، مثل إقامة قواعد عسكرية، والاستحواذ على مشاريع أنابيب الغاز والنفط التي كان يخطط لها من وسط آسيا، والتنقيب عن الثروات الطبيعية في البلاد.
مفاوضات الدوحة
لقد استعادت محادثات الدوحة بين طالبان والولايات المتحدة فكرة قديمة بنشر قوات إسلامية لحفظ السلام، وقد تكون هذه المرة مقبولة أفغانيا نظرا لترؤس تركيا منظمة التعاون الإسلامي، وقبول مختلف الأطراف الأفغانية بدور تركي نجم عن حضور مستمر لأنقرة في أفغانستان.
بيد أن المحادثات الأفغانية تأخذ مسارا آخر في موسكو التي ترى ضرورة التنسيق مع إسلام آباد عند الحديث عن مستقبل أفغانستان، وبعد أن كانت باكستان وروسيا على طرفي نقيض في الثمانينيات يبدوان الآن أكثر تفهما لمصالح بعضهما بعضا، وإلا ما كان لقادة طالبان أن يخرجوا من باكستان للمشاركة في محادثات موسكو.
كما أن الصين تدعم بقوة دورا باكستانيا في البحث عن حل للمشكلة الأفغانية، وقرّب التصعيد الأميركي الأخير ضد إيران طالبان منها، وتبدو طهران اليوم أكثر انسجاما مع طالبان مقارنة بما كانت عليه العلاقة في تسعينيات القرن الماضي.
تبقى الهند وحدها التي لن تقبل بالتهميش في أفغانستان لحساب باكستان، وقد أنفقت في الأعوام الثمانية عشر الماضية مليارات الدولارات لتحويل الدفة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأفغانية من باكستان إليها.
ولم تكترث الولايات المتحدة بتحذيرات الروس عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 من الوقوع في المستنقع الأفغاني، وبضرورة الاستفادة من تجربة السوفيات بأفغانستان، لكن واشنطن تبدو الآن حريصة على مساعدة أي كان للتخلص من الكابوس الأفغاني، ولات حين مناص.
الجزيرة