تناولنا في مقال الأسبوع الماضي إشكاليات التعديلات الدستورية المقترحة في مصر، وأوضحنا أنها تعديلات لا تستهدف تحسين أداء نظام سياسي يعتبره دستور مصر الحالي «الممثل الشرعي لثورتي 25 يناير و30 يونيو»، بقدر ما تستهدف تمكين المؤسسة العسكرية من الهيمنة على كافة مفاصل الحياة السياسية المصرية، وبينا في المقال كيف أن إقدام النظام الحاكم على اقتراح هذه التعديلات يعد إحدى حلقات الصراع المحتدم على السلطة في مصر، خاصة منذ ثورة 25 يناير، بين ثلاث قوى رئيسية: مؤسسة عسكرية تسعى لاستعادة دورها المتآكل في الحياة السياسية، ولإنقاذ م صالحها الاقتصادية المهددة، وقوى سياسية ذات مرجعية دينية تسعى لإقامة دولة تدار وفق التصور الخاص لكل فصيل عن الشريعة الإسلامية، وقوى علمانية تسعى لإقامة دولة مدنية تختلف مقوماتها الاقتصادية والاجتماعية من فصيل لآخر.
ولأن موازين القوى التي استقرت بينها بدأت تميل بشكل حاسم، خاصة بعد 30 يونيو 2013، لصالح مؤسسة عسكرية تبدو منضبطة السلوك وملتفة حول قيادة جديدة يجسدها عبد الفتاح السيسي، يمكن النظر إلى التعديلات الدستورية المقترحة باعتبارها أداة لتمكين القوة المنتصرة في هذا الصراع الممتد، ولإضعاف خصومها المنقسمين على أنفسهم.
أما مقال اليوم فنخصصه لمناقشة مصير هذه التعديلات في ضوء موقف القوى السياسية منها من ناحية، وما تمليه الإجراءات واجبة الاتباع عند تعديل الدستور، من ناحية أخرى. فالمادة 226 من دستور مصر الحالي تنص على: «لرئيس الجمهورية أو لخمس أعضاء مجلس النواب طلب تعديل مادة أو أكثر، ويناقش مجلس النواب اقتراح التعديل خلال 30 يوما من تاريخ تسلمه، ويصدر قراره بقبول طلب التعديل كليا أو جزئيا بأغلبية أعضائه، وإذا رفض الطلب لا يجوز إعادة طلب تعديل المواد ذاتها قبل حلول دور الانعقاد التالي، وإذا وافق المجلس يناقش نصوص المواد المطلوب تعديلها بعد 60 يوما من تاريخ الموافقة، فإذا وافق على التعديل ثلثا أعضاء المجلس عرض على الشعب لاستفتائه خلال 30 يوما من تاريخ تسلمه».
ويلاحظ هنا حرص النظام الحاكم على احترام النواحي الإجرائية حتى الآن، فقد تقدم أكثر من خمس أعضاء مجلس النواب باقتراح لتعديل عدد كبير من المواد، وإضافة مواد جديدة، ووافقت الأغلبية الساحقة لمجلس النواب من حيث المبدأ على اقتراح التعديل، ولم يتبق سوى مناقشة مضمون التعديلات المقترحة وإقرار صيغتها النهائية بعد 60 يوما من تاريخ الموافقة عليها، وهو موعد لم يحن بعد، فإن أقرها مجلس النواب بأغلبية الثلثين، فستطرح الصيغة التي أقرها البرلمان لاستفتاء عام، ومن ثم تدخل حيز التنفيذ فور موافقة أغلبية الناخبين عليها في الاستفتاء.
ولأن مهلة الستين يوما قصد من ورائها إفساح المجال لحوار عام حول التعديلات المقترحة، يفترض أن يستغلها مجلس النواب لعقد جلسات استماع، يتعرف من خلالها على رأي الخبراء من مختلف الاتجاهات، وكذلك على موقف القوى السياسية من هذه التعديلات، خاصة القوى غير الممثلة في البرلمان. غير أنه لا يوجد حتى الآن ما يشير إلى حرص المجلس على تنظيم جلسات استماع كما ينبغي أن تكون، والأرجح أن تتحول هذه الجلسات، في حال تنظيمها، إلى آلية للترويج للتعديلات المقترحة، وليس لتمحيص جوانبها المختلفة، ودراسة تأثيراتها المحتملة على مستقبل الحياة السياسية في مصر، لذا يتوقع ان يتم إقرار التعديلات المقترحة كما هي، وبأغلبية ساحقة، رغم أن مضمون بعضها يتناقض بشكل صارخ مع ما ورد في المادة 226، التي تنص على «عدم جواز تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية، أو بمبادئ الحرية والمساواة، ما لم يكن التعديل متعلقا بالمزيد من الضمانات». كما يتوقع أيضا أن تطرح هذه التعديلات على الشعب في استفتاء عام، يعتقد أن يتم تنظيمه قبل نهاية يونيو، فكيف سيكون رد الفعل الشعبي؟ وفي أي اتجاه يتوقع أن يصوت أغلبية الناخبين؟
أي شعب في العالم يرفض قطعا أن يقبل طواعية بوضع الأغلال في يديه، أو التنازل عن حقه الأصيل في المشاركة في صنع مستقبله
أظن أن الحكمة تفرض علينا أن نميز هنا بين نوعين من التوقعات، الأولى تستند إلى البديهة والمنطق وحدهما، والثانية تستند إلى تحليل موضوعي للواقع بتعقيداته المتشابكة. فالمنطق يقول بأن أي شعب في العالم سيرفض قطعا أن يقبل طواعية بوضع الأغلال في يديه، أو بالتنازل عن حقه الأصيل في المشاركة في صنع مستقبله، فما بالنا بشعب قام بثورة من أجل «العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية» ويدرك يقينا أن التعديلات الدستورية المطروحة عليه تعيده إلى وضع أسوأ بكثير مما كان عليه قبل الثورة. لذا يتوقع، استنادا إلى هذا المنطق وحده، رفض الأغلبية الساحقة من الشعب المصري للتعديلات المقترحة جملة وتفصيلا في أي استفتاء حر. غير أن المنطق شيء وما يجري على ارض الواقع شيء آخر، فالتحليل الموضوع لما يجري على أرض الواقع يشير إلى وجود ثلاث كتل متنافسة، يتوقع أن يتبنى كل منها موقفا مختلفا من التعديلات الدستورية المطروحة:
الكتلة الأولى: تتكون من فئات ترتبط مصالحها عضويا بالنظام الحاكم، ومن ثم فمن الطبيعي أن تتبنى كل موقف يساعد على تثبيت دعائمه، لذا يتوقع ممن ينتمون لهذه الكتلة أن يشاركوا في الاستفتاء المقبل وأن يصوتوا بنعم على التعديلات الدستورية المقترحة.
الكتلة الثانية: تتكون من الفئات المنخرطة تنظيميا في أحزاب أو جماعات أو حركات معارضة للنظام الحاكم، أو من أفراد ينتمون إلى أوساط اجتماعية أو فكرية استفزتها التعديلات الدستورية المقترحة لسبب أو لآخر. ورغم إجماع هذه الفئات على رفض هذه التعديلات جملة وتفصيلا، إلا أنها ما تزال منقسمة على نفسها حول أسلوب التعبير عن هذا الرفض، حيث يطالب البعض بمقاطعة الاستفتاء، بينما يطالب البعض الآخر بالمشاركة والتصويت بلا، كما سنشير لاحقا.
الكتلة الثالثة: تتكون من الفئات غير المهتمة بممارسة النشاط السياسي بشكل مباشر، وغير المنخرطة تنظيميا في تشكيلات أو حركات سياسية أو حزبية، يطلق عليها علماء السياسة والاجتماع مصطلح «الأغلبية الصامتة»، ورغم صعوبة تحديد موقفها النهائي من التعديلات الدستورية المطروحة، إلا أنه يمكن القول إنه موقف غير متجانس يتراوح، بنسب متباينة، بين مقاطعة الاستفتاء أو المشاركة والتصويت بلا أو بنعم. فهذه «الأغلبية» متباينة المصالح والأهداف وتتنازعها مشاعر متضاربة، تتراوح بين الخوف من بطش الأجهزة الأمنية، والخشية من دخول البلاد في نفق مظلم مشابه لما شهدته دول عربية أخرى، كسوريا وليبيا واليمن وغيرها. لذا يتوقع أن يتسم موقفها منذ الآن فصاعدا بالتذبذب، وأن يتأثر بتطورات الأحداث الداخلية والخارجية. ولأن النخب الأكثر ميلا لتأييد النظام تبدو أكثر تماسكا، يحتمل أن تشهد الأسابيع المقبلة جهودا متصاعدة لحث النخب المعارضة على اتخاذ موقف موحد، سواء بمقاطعة الاستفتاء أو المشاركة فيه والتصويت بلا.
تنطلق الفصائل المطالبة بمقاطعة الاستفتاء، والمكونة أساسا من جماعة الإخوان والقوى المتحالفة معها، من موقف مبدئي مفاده أن النظام الحاكم لا يتمتع بأي شرعية تؤهله لطرح تعديلات على دستور هو في الصل غير شرعي. لذا فالمشاركة في الاستفتاء تعني من وجهة نظرها إقرارا بشرعية النظام، وتتحول من ثم إلى فخ ينبغي تجنب الوقوع فيه، خاصة أن النظام الحاكم سيسعى بكل ما لديه من وسائل وآليات لتوظيف الحشود المتجمعة أمام صناديق الاقتراع، للتدليل على حجم التأييد الجماهيري للتعديلات المقترحة ورغبتها في التصويت بنعم، وسيكون بمقدوره في هذه الحالة أن يعلن عن أي نتيجة يراها مناسبة له، بصرف النظر عن الإرادة الفعلية للناخبين. أما الفصائل المطالبة بالمشاركة في الاستفتاء والتصويت بلا، فتنطلق من موقف سياسي مفاده أن التعديلات الدستورية المقترحة تشكل استفزازا واضحا ليس فقط للقطاع النشيط من النخب السياسية المعارضة على اختلاف ألوانها، وإنما أيضا لشريحة واسعة من تلك «الأغلبية الصامتة» التي يتعين اجتذابها ليس فقط للتصويت بلا على التعديلات الدستورية المقترحة، ولكن ايضا للضغط من أجل ضمان شفافية الاستفتاء وحماية إرادة الناخبين، ولاحقا لبناء جبهة معارضة واسعة ضد النظام.
بقي أن نشير إلى أن العديد من المصريين يشعرون بصدمة حقيقية وما زالوا يعيشون في حالة ذهول، من أن تصل حماقة النظام الحاكم إلى الحد الذي يدفعه للتقدم بتعديلات دستورية من هذا النوع الذي يساعد على زعزعة استقرار المجتمعات على المدى الطويل، لذا ما زال البعض يراهن على احتمال إقدام السيسي على سحب هذه التعديلات في اللحظة الأخيرة. ولأنني أرجح أن يمضي النظام قدما في مخططاته الرامية إلى تمريرها، فمن أن يثور التساؤل حول الآثار الناجمة عن دخول هذه التعديلات حيز التنفيذ، وهو ما سنحاول الإجابة عليه الأسبوع المقبل بمشيئة الله.
القدس العربي