خطت باريس وطهران خطوة مهمة على طريق ملء الفراغ الدبلوماسي في سفارة كل بلد لدى الطرف الآخر. وهكذا، فقد سمت الحكومة الفرنسية فيليب تيبو، سفيرا لها في طهران وقبلت تسمية بهرام قاسمي، الناطق باسم الخارجية الإيرانية سفيرا لبلاده في باريس. ولكن حتى اليوم، لم يتسلم أي من السفيرين منصبه الجديد وبحسب مصادر دبلوماسية فرنسية فإنه «ليس من تاريخ حتى اليوم» لإتمام ذلك.
واللافت، من الجانب الفرنسي، شخصية السفير الجديد. ذلك أن فيليب تيبو يحل محل السفير السابق فرنسوا سينيمو الذي عينه الرئيس إيمانويل ماكرون، في يونيو (حزيران) الماضي، مديرا لجهاز المخابرات الداخلية وأهم مهامه درء الخطر الإرهابي عن فرنسا. ومنذ ذاك الوقت بقي المنصب شاغرا في طهران بسبب الاتهامات الفرنسية لجهاز مخابرات تابع لوزارة الداخلية بالمسؤولية عن تدبير محاولة الاعتداء الإرهابي على تجمع للمعارضة الإيرانية «مجاهدين خلق» نهاية يونيو (حزيران). وما يميز تيبو الذي شغل منصب سفير بلاده في كوريا الشمالية وباكستان أنه خبير في المسائل النووية إذ كان ممثلا لبلاده لدى الوكالة الدولية للطاقة النووية ما بين العام 2000 والعام 2005 في فيينا. وفي منصبيه الدبلوماسيين السابقين، كان معنيا في الحالتين بالملف النووي.
ويعكس تعيين تيبو في طهران الأهمية التي توليها باريس للملف النووي الإيراني للسنوات القادمة. ورغم تمسك فرنسا بالاتفاق النووي المبرم مع طهران في صيف العام 2015 والجهد الذي قامت به لإطلاق الآلية المالية «أنستكس» المقدر لها الالتفاف ولو جزئيا على العقوبات الأميركية، إلا أن لباريس تحفظات أساسية على نشاطات إيران النووية وخصوصا في الجانب المتعلق به لما بعد العام 2025.
وفي هذا الإطار، قالت مصادر دبلوماسية رفيعة المستوى إن باريس، رغم معارضتها لخروج الإدارة الأميركية من الاتفاق النووي ولإعادة فرضها عقوبات على إيران، فليس ذلك لأسباب «آيديولوجية» بل لأنها تعتبر أن سياسة الضغوط المواجهة التي تتبعها واشنطن «لن تأتي بالنتائج المطلوبة وهي تطرح مكانها سياسة الضغوط والمفاوضات معا» وهي ترى أن هذه السياسة هي التي «مكنت من الوصول إلى اتفاق 2015 بعد عشر سنوات من المفاوضات».
وفي لقاء مع المصادر المشار إليها، وجهت هذه الأخيرة رسائل تحذيرية لإيران. فهي من جهة، دعتها لـ«التطبيق الحرفي للالتزامات» المنصوص عليها في الاتفاق النووي. وفي نظرها، أن «أي خروج عنه يعني العودة إلى فرض العقوبات» التي رفعت عن طهران.
ومن جهة ثانية، حثت باريس الطرف الإيراني للدخول في حوار حول الأنشطة النووية الإيرانية لما بعد العام 2025. لكن باريس لا تريد حوارا مجزوءا مع طهران بل تسعى لحوار «شامل» يضم كافة الملفات الخلافية وهو ما طرحه الرئيس ماكرون في إطار «سلة» متكاملة.
وفي غياب أي تواصل أميركي ــ إيراني وتراجع أوروبي، فإن المصادر الفرنسية تعتبر أن باريس «وحدها» هي التي تملك مثل هذا الحوار مع طهران. وللتدليل على ذلك، تشير هذه المصادر إلى أن فرنسا هي الجهة الوحيدة التي تصر على مناقشة الملف الباليستي مع طهران رغم أن الإيرانيين «لم يقبلوا قط فتحه مع أي جهة أخرى».
وسبق لباريس أن هددت بفرض عقوبات على طهران بسبب برنامجها الباليستي. ورغم ذلك، فإن هذه المصادر تسارع إلى القول إن الوصول إلى نتائج إيجابية بشأنه «لن يكون أمرا سهلا».
رغم التطور الإيجابي في ملف عودة السفراء، إلا أن باريس لم تمح من ذاكرتها ما تعتبره محاولات إيرانية إرهابية قامت بها الأجهزة الإيرانية على أراضيها. ووفق مصادر رسمية، فإن الموقف الفرنسي يقوم على تحذير طهران من العودة إلى ذلك على الأراضي الفرنسية أو الأوروبية. وسبق لوزيري الخارجية والاقتصاد أن أصدرا بيانا تحذيريا حازم اللهجة بهذا الشأن. كذلك فرضت باريس عقوبات ثنائية ذات مدلول سياسي أكثر مما لها مفعول اقتصادي. وقد لحقتها مؤخرا سلة عقوبات أوروبية للأسباب نفسها.
كثيرة نقاط الاحتكاك الفرنسي ــ الإيراني. وإلى ما سبق يتعين إضافة سياسة إيران الإقليمية التي تصفها اللغة الرسمية الفرنسية بـ«المزعزعة للاستقرار» في إشارة إلى أنشطة إيران في سوريا ولبنان واليمن والعراق والخليج.
وسبق للرئيس ماكرون ووزير الخارجية جان إيف لو دريان أن عبرا عن مواقف بلغة التشدد إزاء «نزعة الهيمنة» الإيرانية في المنطقة. ووفق ما جاء على لسان المصادر المشار إليها، فإن باريس تثير هذه المسائل مع طهران وتصر على أنها «لا يمكن القبول بها».
لكن باريس تعي، بحسب أوساطها، أن تغيير «السلوك الإيراني» لا يمكن أن يتم بقدرة قادر وأنه «لا حل لأزمات الشرق الأوسط من غير تسوية إقليمية» تشمل، وفق القراءة الفرنسية، كافة الأطراف المعنية إقليميا التي «تقع على كاهلها مسؤوليات كذلك».
ولاكتمال الصورة، تتعين الإشارة لتركيز فرنسا على ملف حقوق الإنسان كما ظهر من خلال خطاب وتصريحات وزيرة الدولة الفرنسية لشؤون المساواة بين الجنسين في الأمم المتحدة وتحديدا من خلال التركيز على وضع المناضلة الإيرانية المسجونة نسرين سوتوده وذلك من على منبر الأمم المتحدة.
وهكذا، فبين باريس وطهران ملفات خلافية كثيرة وعميقة. وواضح أن الطرف الفرنسي لا يمنح إيران «شيكا على بياض» في الملفات الأربعة. إلا أنه ما زال يعتبر أنه من الممكن الفصل بين الملف النووي وبين الملفات الأخرى.
ولكن هذه السياسة ربما لن يكون الاستمرار بها شيئا سهلا خصوصا أن الطرف الآخر ما زال يعتبر أن أوروبا لم توفر له ما كان يتوقعه وأنها ما زالت «خجولة وبطيئة» في التدابير التي تتخذها من أجل تمكينه من الاستمرار في الاستفادة من منافع الاتفاق النووي الذي ما زال ملتزما به.
الشرق الاوسط