يشير مسار التحولات والتغيرات العربية الذي حملته الثورات والانتفاضات العربية، منذ نهاية العام 2010، إلى حدوث تطورات وتغيرات جيوسياسية هامة في أغلب البلدان العربية، الأمر الذي بدأ يؤثّر على سياسات (وتوجهات) مختلف الأنظمة والقوى العربية ومعها الإقليمية، وعلى قضايا المنطقة وملفاتها، وأهمها القضية الفلسطينية والصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
ويبدو أن التظاهرات التي انطلقت في 14 مارس/ آذار الجاري في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، رفضاً للظروف المعيشية، ولفرض حركة حماس ضرائب جديدة على المواد التموينية، مرشحة للتحول إلى حراك شعبي فلسطيني رافض سياسات الحركة وممارساتها في القطاع.
وإذا كانت التظاهرات المستمرة بشكل شبه يومي ليست الأولى من نوعها، إلا أن السياق العربي والإقليمي الأوسع الذي ترتبط به يجعلها مختلفة عن سابقاتها هذه المرّة، إضافة إلى أن المحتجين رفعوا شعار “بدنا نعيش” الذي يضاف إلى شعارات المحتجين الجزائريين وهتافاتهم ضد نظام عبد العزيز بوتفليقة، واستعادتهم الشعار الذي مثل أيقونة شعارات الثورات العربية: “الشعب يريد إسقاط النظام”، واستمرار وتيرة التظاهرات الاحتجاجية الشعبية في السودان التي بدأت منذ أشهر، وتريد إسقاط نظام عمر البشير… ذلك كله يجعل قادة “حماس” يتلمسون رؤوسهم، وبدأ الخوف يسكنهم من أن تتحول التظاهرات إلى حراك احتجاجي عارم، يطالب بإسقاطهم أيضاً، أسوة بأنظمة الاستبداد والقمع العربية.
ويأتي شعار “بدنا نعيش”، بالغ الدلالات والمعاني، كي يلخص مطالب أكثر من مليوني
“حماس تمنّن الشعب الفلسطيني بمقاومتها الاحتلال الإسرائيلي” فلسطيني في قطاع غزة، وملايين الفلسطينيين في مناطق السلطة في رام الله وخارجها، ويختصر كذلك مطالب ملايين من الشعوب العربية، من الجزائر إلى غزة ومن اليمن إلى سورية والعراق ومصر، حيث يستمر الحراك الاحتجاجي للثورات، كي يدشن لحظاتٍ كبرى في تاريخها الحديث، ويفتح الباب أمام احتمالاتٍ، تُظهر جلياً أن ما كان سائداً من أنظمة استبداد وحركات ممانعة مخادعة، وقوى وتركيبات تسلطية، لم تعد صالحة في أيامنا هذه، ولم تعد تمتلك الأهلية وشرعية الاستمرار في الحكم أيضاً.
ولعل ما يجري في قطاع غزة، من قمع وملاحقات واعتداءات ومحاولات اغتيال، تقوم بها القوة الأمنية لحركة حماس، لا يختلف عما تقوم به الأنظمة العربية في أيامنا هذه في السودان وغيره، ولا عمّا قامت به الأنظمة ضد الحراك الاحتجاجي للثورات العربية، فقد خسرت “حماس” ما ظلت تعلنه عن نفسها فصيلاً مقاوماً وكفاحياً ضد الاحتلال الإسرائيلي، بل وأخفقت في البرهنة على قدرتها في إدارة مجتمع فلسطيني تحت حصار الاحتلال، باستثناء قدراتها الأمنية والقمعية، ووجدت نفسها خاسرةً أمام الفلسطينيين في غزة، عبر لجوئها إلى القمع والعنف، لمواجهة حراك احتجاجي ضد سطوتها وسلطتها الأحادية الانفرادية.
وإذا كان المحتل الإسرائيلي يتحمل المسؤولية الأساسية عن الأوضاع المأساوية في قطاع غزة، نتيجة استمراره في فرض حصارٍ خانق منذ أكثر من اثني عشر عاماً، فضلاً عن اعتداءاته المتكررة على الشعب الفلسطيني، إلى جانب مسؤولية السلطة الفلسطينية، إلا أن حركة حماس التي فرضت سلطتها على سكان القطاع تتحمل أيضاً مسؤوليةً عن الأوضاع المأساوية للسكان، بوصفها سلطة الأمر الواقع، المسؤولة مباشرة عن تردّي الأوضاع وقساوتها، كون “حماس” تحوّلت من حركة مقاومة إلى سلطة حكم وقمع، تقايض مع سلطة الاحتلال التهدئة مقابل تدفق الأموال والكهرباء، وبالتالي هي لا تختلف عن باقي الأنظمة العربية القمعية.
ولا شي يبررّ الممارسات القمعية ضد المتظاهرين في غزة الذين رفعوا شعار “بدنا نعيش”،
“حركة حماس التي فرضت سلطتها على سكان القطاع تتحمل أيضاً مسؤوليةً عن الأوضاع المأساوية للسكان” ولا الملاحقات والاعتقالات ومحاولات الاغتيال، كما لا تنفع نظرية “المؤامرة الخارجية” لغض النظر عما تقوم به أجهزة “حماس” ضد جموع المحتجين، على الرغم من أن الحركة تعاني الإفلاس، نظراً لاستمرار الحصار الخانق، فأصبحت غير قادرة على تسديد رواتب عناصر أمنها، واحتياجات جناحها العسكري، لكن ذلك لا يبرّر ما تقوم به ضد سكان القطاع وأهله، ولا يعفيها من مسؤولية تخفيف جوانب من المعاناة الإنسانية المتعدّدة الوجوه عنهم.
ويكشف واقع الحال في غزة أن “حماس” تحاول تغطية الواقع المأساوي لمليوني فلسطيني بالشعارات، مثل “فلسطين بوصلتنا”، و”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، وهي شعاراتٌ كان نظام الأسد الإجرامي يرفعها، عندما كانت مقاتلاته تدكّ، بالبراميل المتفجرة والصواريخ والقنابل، المدارس والأسواق والمشافي ومساكن الآمنين في المناطق التي خرجت باحتجاجات ضد نظام حكمه، وبالتالي لن ينطلي زيف رافعي هذه الشعارات على الفلسطينيين، لأنهم يدركون أن على من يريد مقاومة العدو الإسرائيلي، ألا يحرم الناس من أبسط متطلبات الحياة الكريمة، وألا يستقوي على الناس من خلال تمكين سلطته وجماعته، وحرمان الناس من كل شيء، لأن المقاومة لا تفضي إلى فقدان الحرية وامتهان كرامة الإنسان وحرمانه من حقوقه.
والحاصل أن حركة حماس تمنّن الشعب الفلسطيني بمقاومتها الاحتلال الإسرائيلي، وكأن من يقاوم المحتل يحق له أن يكون قامعاً لشعبه، مع أن المقاومة هي، في معناها ومبناها، تعبير عن حاجة الناس الواقعين تحت الاحتلال إلى الخلاص، ونيل حريتهم، واسترجاع كرامتهم.
العربي الجديد