“الكباب العراقي هو الأكلة المفضلة لدى العرب والأكراد والتركمان والمسيحيين..”. هكذا يقول جبار السورجي صاحب مطعم مشهور في أربيل في إشارة منه إلى توافق وانسجام أبناء البلد الواحد في الرغبات والاهتمامات رغم وجود الاختلافات.
النسيج المجتمعي في بلاد النهرين تأثر كثيرا بعد الغزو الأميركي للبلاد عام 2003 وكان الحلقة الأضعف في المعادلة، فقد تحمل الجزء الأكبر من عملية التغيير التي رسمتها الولايات المتحدة في أقدم مجتمعات العالم، وما نراه اليوم من تشظٍ وتفكك في العديد من القيم الاجتماعية دليل حي وملموس على جملة من السياسات الخاطئة التي رافقت تلك المرحلة.
ويبدو أن العراقيين تمسكوا بعدد من عاداتهم الخاصة وطقوسهم التراثية التي تميزهم عن غيرهم من شعوب العالم، وتظهرهم كنسيج متماسك متداخل مع بعضه البعض كما كان دائما.
وجبة شعبية
ما زال العراقيون بمختلف انتماءاتهم ومناطقهم يعشقون تناول أكلة الكباب، التي تمثل وجبة الطعام الأكثر شعبية في البلاد، وأحد أبرز الطقوس التي يمارسها الفرد أو العائلة على حد سواء، ورغم العديد من التحولات والتغيرات التي عصفت ببنية ونسيج المجتمع العراقي بعد عام 2003، وانتشار ظواهر وعادات جديدة تحت مسميات مختلفة، فإن أبناء بلاد الرافدين تمسكوا بعشقهم الكبير للكباب العراقي.
ويؤكد صاحب مطعم كباب “زرزور” الشهير نعمان محمد نوار أن العراقيين يعشقون تناول الكباب، ويعد الخيار الأول للعائلة العراقية ومعظم رواد المطعم، مشيرا إلى أن هناك طقوسا وأجواء خاصة يستذكر فيها العراقيون ذكريات الماضي.
ويقول نوار أيضا للجزيرة نت “تشهد فروعنا في بغداد والبصرة والأردن وسوريا ولبنان إقبالا كبيرا على وجبة الكباب، حيث أمسى تناولها موروثا شعبيا عبر الأجيال، لما له من مكانة مميزة وصورة جميلة في ذاكرة العراقيين بمختلف طوائفهم وقومياتهم”.
نقطة تحول
عاش المجتمع العراقي أقسى حقبة عرفها منذ تأسيس دولة العراق الحديث عام 1921، حيث توقع العراقيون أن بلدهم سيكون الولاية 51 بعد دخول القوات الأميركية أراضيهم عام 2003 وإسقاط النظام بدعوى وجود أسلحة الدمار الشامل، التي اتضح لاحقا أنها مجرد ذريعة لاحتلال العراق وتغيير النظام؛ ليتغير معه وجه وملامح البلاد، وتسود ظواهر جديدة وعادات دخيلة في مجتمع طالما تميز عن غيره بالحفاظ على قيمه وموروثه لقرون خلت.
وتقول النائبة السابقة والقيادية في تحالف الإصلاح والإعمار سروة عبد الواحد إن من كان يستمع للخطاب الأميركي آنذاك تأمل واقعا مغايرا تماما عن الذي حصل في بلاد الرافدين، التي دفع شعبها ثمنا باهظا، وكان الضحية طيلة السنوات الماضية.
وأضافت سروة للجزيرة نت أن فقدان القيم المجتمعية بدأ مع الحروب التي خاضها النظام السابق، والحصار الذي فُرض على العراق، مؤكدة أن الانفتاح والعولمة الإلكترونية استفادت منها الأحزاب السياسية من أجل “التسقيط والتشويه”.
وأشارت إلى أن هناك عددا لا بأس به من العراقيين يتداول تلك التشوهات بطريقة غير مدروسة، وطالبت الجهات المختصة بإيجاد طرق مناسبة للتعامل معها بشكل مهني؛ كونه يؤثر على المجتمع بشكل سلبي ويهدد النساء بشكل خاص.
وتقول سروة أيضا “بعد إسقاط النظام السابق فشلت الطبقة السياسية في نشر الوعي، بل ذهبت لإشغال المجتمع بأحقاد طائفية وقومية كانت تعاني منها في زمن المعارضة وعملت بطريقة مدروسة لتفكيك المجتمع”.
عولمة أميركية
وكان المجتمع العراقي قبل هذا التاريخ متماسكا جدا، وكانت الأسر العراقية مثالا للانسجام والعلاقة الطيبة والاحترام، ولم تكن النعرات ولا الدعوات الطائفية والقومية ذات تأثير على النسيج الاجتماعي”. بهذه الكلمات يختزل عميد كلية الإعلام في الجامعة العراقية الدكتور عبد الله الحديثي المشهد العراقي بعد عام 2003.
ويؤكد الحديثي للجزيرة نت أن المجتمع العراقي صاحب قيم مدنية يحترم القانون ويهاب الدولة، ولم تكن ظواهر الرشوة والكذب والمحسوبية والانتهازية والفساد المالي والإداري بهذا الشكل والسعة، إلا أنه لم يحسن أيضا التعامل مع الوسائل الحديثة والانفتاح لتطوير الذات والمجتمع واكتساب المهارات والمعارف والعلوم.
ويقول الخبير الاجتماعي الدكتور حيدر الدهوي للجزيرة نت إن الغزو الأميركي للعراق تسبب في تدمير البنى التحتية بكل مرافقها الثقافية والتربوية والاجتماعية والنقابية والاقتصادية، فضلا عن انفلات أمني وطائفي وسياسي، رافقه تعطيل سلطة القانون، ونشوء مرجعيات متطفلة على المشهد الثقافي.
المصدر : الجزيرة