كان تكوين الدولة الحديثة في العراق عام 1920 خطوة على طريق طويل لتأسيس مؤسسة سياسية تكون قادرة على مواجهة الصعوبات الداخلية والخارجية، وكان من المهام الأساسية هي إيجاد مؤسسة تشريعية، كان السياسيون العراقيون قد طالبوا بها، كما أوصت بها بنود الانتداب البريطاني على العراق. وقد قام بهذه المهمة المجلس التأسيسي العراقي المنتخب، الذي صادق على المعاهدة العراقية البريطانية واقر دستور الدولة الجديدة وقانون انتخاب مجلس النواب.
وعند تحليلنا للإطار السياسي والتشريعي، واللذين عمل المجلس التأسيسي والبرلمان العراقي خلالهما، فإننا سنتعامل مع مجاميع القوى التي سيطرت على الانتخابات النيابية ومناقشات البرلمان. ودور البريطانيين والقصر الملكي ورؤساء الوزارات والأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية مثل شيوخ العشائر ورجال الدين والمتعلمين والمثقفين والأكراد. وماذا كان يعني البرلمان للناس لأولئك الذين تم انتخابهم، والعوامل التي أدت إلى فشل البرلمان في أن يتخذ مكانته الطبيعية ممثلا للشعب في الحياة السياسية العراقية في العهد الملكي.
إن العوامل التي أدت إلى فشل التجربة البرلمانية في العراق كانت متعددة، فهناك من رأى أن سبب الفشل كون التجربة قد جاء بها البريطانيون وقد استخدمت من قبلهم لإضفاء الشرعية على مصالحهم في العراق، إذ وصلت بهم الدرجة إلى التهديد بحل المجلس التأسيسي والبرلمان عدة مرات، عندما رأوا أن هناك عقبات تقف بوجه أهدافهم خلال فترة الانتداب، مستخدمين وسائل غير قانونية للحفاظ على مصالحه بلادهم.
ان هذه السابقة شجعت الحكومات العراقية فيما بعد على التدخل في الانتخابات النيابية وتزويرها لضمان أغلبية مساندة لها في البرلمان. ولذلك لم يأخذ البرلمان دوره الصحيح والكامل في الحياة السياسية في العراق، لقد زورت الانتخابات وحلت البرلمانات قبل أن تكمل دوراتها التشريعية، ولم يمارس البرلمان حقه في يوم ما بسحب الثقة من الحكومة. ولذلك كان الانطباع لدى العراقيين هو أن الدستور وحتى قانون الانتخابات؛ هما وسيلة تستخدم من قبل السلطة التنفيذية لضمان انتخاب مرشحيها، ونتيجة لذلك لم تكن هناك رغبة لدى المجتمع بحماية الدستور والذي كان يعتبر ورقة لا قيمة لها في المجتمع .
إن هذه العوامل قد أوقفت الحياة البرلمانية حالما قامت ثورة 14 تموز 1958 وألغت النظام الملكي في العراق، ولم يشهد هذا البلد بعد ذلك أي حياة برلمانية لمدة 20 عاماً خلال العهد الجمهوري إلى عام 1980 عندما استلم حزب البعث السلطة في العراق عام 1968.
لقد كانت التجربة البرلمانية الجديدة تختلف عن سابقتها، فلم يشارك في الانتخابات سوى حزب السلطة والأحزاب الكردية القريبة منه والمستقلين من جميع أنحاء العراق. وقد أطلق على البرلمان الجديد اسم المجلس الوطني، ويمثل أعضاؤه المنتخبين جميع العراقيين، وعندما انتهت الحرب العراقية –الإيرانية أجريت انتخابات جديدة عام 1989. وقد صدرت تعليمات مشددة إلى مقرات حزب البعث إلى السلطات المحلية بعدم التدخل بالانتخابات لصالح مرشحي الحزب، وكان على أعضاء الحزب المرشحين أن يتنافسوا مع المرشحين الآخرين.
ولهذا فشل العديد من البعثيين في الحصول على مقعد نيابي، وانتخب بدلاً منهم المستقلين خصوصاً المحامين والأكاديميين وآخرين، وكان حق الترشيح يقوم على أساس الولاء للعراق وأهداف الثورة والحزب، وحرمت الطائفية والعنصرية. الا ان ظروف الحصار والحرب بعد عام 1991 جعلت التنافس في الانتخابات بين مرشحي الحزب الحاكم سواء اكانوا حزبيين، او مستقلين ممن يرشحهم الحزب نفسه, ولم يكن هناك حزب منافس على الساحة.
وتظهر محاضر جلسات “المجلس الوطني” أن الأعضاء قد مارسوا حقهم في التشريع والرقابة، وكان على الوزراء أن يواجهوا النواب وانتقاداتهم، وان يجيبوا على أسئلتهم واستفساراتهم، خصوصاً فيما يتعلق بأعمال وزاراتهم وموازناتها. وفي إحدى المرات سحب المجلس الوطني الثقة من وزير الصحة لفشله في إقناع المجلس بأجوبته، لكن القرارات السياسية الحاسمة والخطيرة قد كانت بيد السلطة التنفيذية، وان صدرت قرارات مخالفة من المجلس الوطني فلا يعتد بها.
لقد كانت تجربة العراق البرلمانية بعد الاحتلال الأمريكي في عام 2003 تختلف تماما عن سابقتيها، فقد قامت أسس الدولة على مبادئ طائفية وعنصرية، وسمح للأحزاب الطائفية والعنصرية بالسيطرة على الحكومة في البلاد. وأصبح الترشيح للانتخابات النيابية في البداية يقوم على أساس القائمة المغلقة، حيث يصوت الناس إلى أرقام وأسماء القوائم، دون أن تكون لديهم أي فكرة عن أسماء المرشحين وقابلياتهم عدا أسماء رؤساء القوائم أو الرمز الطائفي أو العنصري للقائمة.
أما الأكراد فقد صوتوا لصالح دولة كردية مستقلة إلى جانب تصويتهم النيابي بالرغم من بقائهم رسمياً جزءاً من العراق تحت اسم الفيدرالية. وشكلوا داخل المجلس النيابي كتلة قوية بالتحالف مع كتلة الائتلاف الشيعي، والذي كان له تأثيره في سن الدستور لصالح مطامحهم.
اقر الدستور الجديد على أن الحكومة يجب أن يختارها المجلس النيابي، ويكون رئيس الوزراء من الكتلة الأكبر في المجلس، بشروط غير مكتوبة فيه وإنما متفق عليها، وهي أن يكون رئيس الوزراء شيعي ورئيس مجلس النواب سني ورئيس الحكومة الفدرالية عربي أو كردي، وتكون السلطة الحقيقية بيد رئيس الوزراء الذي هو في الوقت نفسه القائد العام للقوات المسلحة.
وعليه فان الحكومة تمثل الأحزاب والكتل في البرلمان الذين اختاروا رئيس الوزراء والوزراء، ولا يتمكن رئيس الوزراء من تغيير أي وزير إلا بموافقة كتلة الوزير أو حزبه، ولذلك فان تركيبة المجلس النيابي والحكومة تعكس الطبيعة المذهبية والطائفية السياسية للدولة الجديدة في العراق، ثم تطور الامر بتفسير مفهوم الكتلة الاكبر على انها لا تكون بالضرورة تلك التي فازت بالانتخابات، وانما التكتل الاكبر لكتل بعد الانتخابات داخل البرلمان، مما افرغ الانتخابات من مفهومها الديمقراطي وقاد البلاد الى حكم يمثل ارادة الاحزاب السياسية وليس ارادة الشعب.
وفي الوقت نفسه استمرت سياسة التهميش والاقصاء للمكون السني لتشمل حتى المتحالفين مع الاحزاب الدينية الشيعية، بما فيهم نواب رئيس جمهورية ونواب وزراء ووزراء ونواب، الى الدرجة التي شملوا بالمادة “4 ارهاب” وحكموا بأحكام مختلفة بما فيها الاعدام. ومع ان المحللين السياسيين يعزون هذه السياسة الى حكومة المالكي، الا ان الاخير هو جزء من الكتلة الاكبر التي رشحته، والتي لم تعترض على سياسته لدرجة انها وقفت ضد سحب الثقة منه عندما حاولت الكتل الاخرى اسقاط وزارته.
ومن جانب آخر، سعت الكتلة الكبرى وحلفائها الى عرقلة تعديل الدستور وتخليصه من المثالب التي تعتريه, مما ابقى الحالة على ما هي عليه, فقادت سياسة التهميش والاقصاء والفساد الاداري والمالي الى تمزق البلاد وسيطرة قوى متطرفة دينيا على حوالي نصف مساحة العراق بعد انهيار الجيش امامها. وبدلا من جمع صفوف الشعب في مواجهة هذا الخطر الجسيم، استمرت سياسة الاقصاء بتكوين الحشد الشعبي من الشيعة فقط ورفض تجنيد ابناء السنة، للدرجة التي جعلت قوى كبرى مثل الولايات المتحدة تتدخل لتسليحهم. كل هذا والبرلمان الذي يمتلك سلطة تشكيل الحكومة واسقاطها لم يحرك ساكنا، سوى تصريحات واستغاثات من نواب وكتل سنية تذهب اصواتها ادراج الرياح .
هذه هي ثلاثة نماذج من التجارب البرلمانية في العراق, فشلت جميعها في اقناع الشعب بتمثيلها له، ولعل السبب يعود الى ان التجربة البرلمانية في العراق لا تشكل جزءا مقنعا من تراثه لانها جاءته في ظروف غير طبيعية وبزمن قصير لا يتجاوز المائة سنة من تاريخ قرون طويلة من حكم الخليفة والسلطان, فهي ليست كالتجربة البريطانية التي تمتد جذورها الى القرن الثالث عشر، عندما بدأت بتحديد سلطة الملك في وثيقة “المغناكرتا” عام 1215، والتي شكلت جذور التجربة البرلمانية البريطانية، واصبحت جزءا مهما من تقاليد المجتمع وعاداته الى درجة القدسية لدى الفرد البريطاني، ولا يبدو في الافق ما يدل على تصحيح المسيرة البرلمانية في العراق رغم التجارب المريرة التي مرت بها منذ تأسيس الدولة العراقية.
أ.د محمد مظفر الادهمي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية