مشكلة البيانات في أسواق النفط

مشكلة البيانات في أسواق النفط

السبب الرئيس في تغيرات أسعار النفط هو البيانات والأخبار التي تتدفق باستمرار، وصحة البيانات والأخبار ضرورية جداً لضمان الشفافية والكفاءة والاستقرار في السوق.

المشكلة التي نعاني منها الآن أن نوعية البيانات تدهورت بشكل كبير منذ العام الماضي لأسباب متنوعة، بعضها معروف، وبعضها غير معروف. وقد أسهم العديد من الأمور في سوء نوعية البيانات أهمها وسائل الاتصال الاجتماعي، وتكنولوجيا المعلومات، ومحاولة الشركات تخفيض تكاليف التقارير، وإلزام الموظفين إرسال البيانات في مواعيد محددة، وعدم وجود مراجعة لبيانات وكالة الطاقة الدولية، وأوبك، وإدارة معلومات الطاقة الأميركية من هيئة مستقلة. من هنا، فإن ادعاء أي شخص أن توقعاته لأسعار النفط صحيحة فهو كذلك: مجرد ادعاء. علماً أن نجاح التوقع لأسباب تختلف عن الأسباب التي ذكرها المتوقع يعني فشل التوقع!

وعادة تُجمع البيانات الأولية، ثم تدخل في نماذج رياضية، ليخرج منها بيانات وتوقعات. المشكلة قد تكون في أي جزء من الأجزاء الثلاثة، أو بعضها، أو كلها. فقد تكون البيانات الأولية صحيحة، ولكن النموذج الرياضي، خطأ، فينتج منه بيانات وحسابات وتوقعات خاطئة. هذه الفكرة مهمة لأن البعض يعتقد أن المشكلة الكبرى ليست في البيانات الأولية وإنما في النماذج الرياضية المستخدمة. المشكلة في هذا الرأي من يتبنّاه: الشركات التي تبيع البيانات!

مشاكل بيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية

يهتم تجار النفط والمضاربون والمستثمرون والمحللون وصانعوا القرار بالبيانات الأميركية، ليس فقط لأن الولايات المتحدة أكبر منتج ومستهلك للنفط في العالم، ولكنها البلد الوحيد الذي يصدر بيانات أسبوعية عن المخزون والواردات والصادرات وأداء المصافي وتقديرات الإنتاج. من هنا أصبحت البيانات التي تقدمها إدارة المعلومات مهمة للعالم أجمع.

المشكلة أن نوعية هذه البيانات تدهورت بشكل كبير منذ العالم الماضي، إما بسبب سوء البيانات الأولية، أو النماذج الرياضية، أو كليهما.

ومن أهم علامات تدهور نوعية البيانات مايلي:

ارتفاع كبير في كمية النفط المجهولة المصدر، أو الكمية اللازمة التي يجب افتراضها لتساوي جانب العرض مع جانب الطلب. بعبارة أخرى، في عالم مثالي، يقدّر العرض بشكل مستقلّ، ويقدّر الطلب بشكل مستقلّ، وفي النهاية نجد أنها متساويان. إلا أننا لا نعيش في عالم مثاليّ وهناك دائماً فروق بينهما سالبة أو موجبة. يقوم المحلل في إدارة المعلومات بإضافة هذا الفرق إلى أحد جانبَي المعادلة حتى تتساوى المعادلة، ويسميها “كمية التعديل”. هذه الكمية زادت بشكل كبير في الشهور الأخيرة بشكل لايتناسب مع البيانات التاريخية، ولا أحد يعرف السبب. إدارة معلومات الطاقة تقول إن السبب هو السوائل الغازية المنتجة في المصافي، ولكن ليس هناك أي دليل يؤكد كلامها. الواقع يشير إلى أحد أمرين أو كليهما: مبالغة في الإنتاج أو مبالغة في الصادرات.

افتراض كمية تعديل في البيانات الأسبوعية كي تتفق مع الشهرية. نظراً إلى تفاقم الفرق بين بيانات الإنتاج الأسبوعية التي تعتمد على النماذج الرياضية والبيانات الشهرية التي تعتمد بشكل أكبر على بيانات الشركات، قامت إدارة معلومات الطاقة بتعديل البيانات صعوداً بـ 50 ألف برميل يومياً، فقط كي تتواءم البيانات مع بعضها بعضاً، وعندما أصبح الفرق سالباً، قامت بوقف الإضافة. هذه العملية دليل قاطع على سوء النموذج الرياصي المستخدم، والذي ينتج بيانات خطأ. وللأسف، تقوم بعض وسائل الإعلام بالترويج لبيانات إدارة المعلومات من دون ذكر المشاكل التي تعاني منها واحتمال الخطأ فيها. والأنكى من ذلك تُترجم إلى العربية، ثم يقوم البعض بالاعتداد بها وكأنها حقيقة علمية، والصحف والبرامج الخليجية مليئة بهذا النوع من الأخطاء.

تقريب أرقام الإنتاج إلى أقرب مئة ألف برميل يومياً. في خطوة لتفادي الانتقادات المستمرة، قامت إدارة المعلومات بنشر بيانات الإنتاج الأسبوعية مقربة إلى أقرب مئة ألف برميل يومياً. فإذا زاد الإنتاج الأميركي بمقدار 55 ألف برميل يومياً في أسبوع ما، فإن الإدارة تنشر في تقريرها أن الزيادة كانت 100 ألف برميل يومياً، وإذا زاد في الأسبوع الذي يليه بمقدار 55 ألف برميل، تكتب أيضاً 100 ألف برميل يومياً. هذا يعني أن الزيادة كانت 110 آلاف برميل يومياً، ولكن التقارير تشير إلى 200 ألف برميل يومياً. ثم تترجم، ويتفنن الكتاب العرب والمحللون في الحديث عن الـ 200 ألف برميل!

في الفترات الأخيرة ثبت أن إدارة معلومات الطاقة تبالغ في تقديراتها الأسبوعية للإنتاج، حيث توضح البيانات الشهرية التي تنشر متأخرة شهرين أن الإدارة بالغت في تقديرها للإنتاح وقتها. مثلاً، هناك مقالات عديدة بالإنجليزية والعربية تفيد أن إنتاج الولايات المتحدة تجاوز 13 مليون يرميل يومياً في بداية العام، ولكن البيانات الشهرية تفيد أن إنتاج الولايات المتحدة مازال تحت 13 مليون برميل يومياً بفارق كبير.

عدم توافق البيانات بين التقارير المختلفة. فهناك تقريران شهريان وأربعة تقارير أسبوعية ولا تتفق مع بعضها بعضاً إطلاقاً.

ولعل أكبر مشكلة تعاني منها بيانات إدارة معلومات الطاقة، أن بيانات النفط الخام من أحواض النفط الصخري تحتوي على المكثّفات، وهي الوحيدة في العالم التي تعتبرها كذلك لأسباب تاريخية تتعلّق بقوانين الضرائب في الولايات من جهة، ولعدم رغبتها في تغيير تعريفات المنتجات النفطية من جهة أخرى.

مشاكل بيانات أوبك وغيرها

توقّف بعض أعضاء أوبك عن تقديم أي بيانات للمنظمة. كما أن بعض الدول تقوم بتقديم البيانات نفسها شهراً بعد شهر على الرغم من التغير الدائم في إنتاجها.

وعلماً أن شركات مراقبة الإنتاج والشحن تقوم بتقدير إنتاج كل الدول المنتجة للنفط، إلا أن أوبك تنشر متوسطاً لهذه التقديرات، والمتوسط مضلل دائماً. وحقيقة أن هذه التقديرات المختلفة أصلاً تدل على حجم المشكلة.

ولا شك في أن إضافة دول جديدة إلى أوبك ليست لديها خبرة في جمع البيانات، ثم التعاون مع عشر دول أخرى من خارج أوبك لم تتعامل مع البيانات أصلاً، يجعل الخبير يشكك في كثير من البيانات.

وازداد الأمر تشعباً وضبابية مع فرض الولايات المتحدة العقوبات النفطية على إيران وفنزويلا، والتي أجبرت كلتا الدولتين على بيع نفوطهما في السوق السوداء، بعيداً من الأنظار، الأمر الذي أسهم بشكل كبير في زيادة سوء نوعية البيانات.

مشاكل البيانات الأخرى

أسهم دخول وسائل الإعلام في مراقبة حاملات النفط إلكترونياً في تدهور نوعية البيانات بشكل كبير. فالمراقبة الإكترونية سهلة لأنها تربط جهاز الحاسوب ببرنامج يتقبل إشارات رادارات السفن. المشكلة أن كثيراً من حاملات النفط، ليست فقط من إيران وفنزويلا، وكردستان، تقوم بإطفاء راداراتها لتجنب متابعتها، وبالتالي فإن كل بيانات الشحن التي مصدرها وسائل الإعلام التي تراقب السفن إلكترونياً مضللة. المشكلة أن وسائل الإعلام هذه لديها القدرة على توصيل المعلومات إلى شتى أنحاء العالم، بينما البيانات الحقيقية يحصل عليها من يدفع ثمنها. وكان هناك برنامج تلفزيوني يوم السبت الماضي استخدم فيه المعلقون بيانات خاطئة تماماً بسبب اعتمادهم على بيانات وسائل الإعلام. وهنا لابد من التنويه: الخبير صانع الخبر، والمعلق قارئ للخبر.

وسائل الاتصال الاجتماعي تسهم أيضاً في تشويه البيانات والمعلومات بسبب النشر والتداول السريع للبيانات الخاطئة.

تطوّر وسائل الاتصال الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات ولّد مشكلة جديدة لم تكن موجودة من قبل وهي “تدوير البيانات والمعلومات باستمرار”. مثلاً، قد يكون هناك خبر من مكان مجهول من مصدر مجهول، تتداوله مواقع إعلامية، ثم ينتقل عبر وسائل الاتصال الاجتماعي بكثافة. فإذا قلت إنه خبر غير صحيح، يأتيك الرد: أوووه، هذا موجود في عدد كبير من المواقع ووصلني على “واتس أب” من أكثر من مصدر موثوق. الحقيقة إنه خبر دوّار من مصدر واحد وغير موثوق، أصبح حقيقة بسبب انتشاره الكبير. ولعل أفضل مثال على هذا خبر إنشاء الصين بورصة نفطية بالعملة الصينية مدعومة بالذهب! الخبر في الأساس عارٍ من الصحة، ولكنه انتشر انتشار النار في الهشيم، لدرجة أن البعض كتب مقالات عنه في الصحف الخليجية وحلّل آثاره وكأنه حقيقة!

مشكلة إدخال البيانات: في أغلب المؤسسات، من يدخل البيانات هم في أدنى السلم الوظيفي وأقلّهم أجراً. فإذا أُدخلت البيانات في خانة أو عمود مختلف، وليست هناك مراجعة لها، أصبحت البيانات من دون قيمة. فإذا استخدمها خبير أو محلّل أو باحثٌ، يحصل على نتائج غريبة، من دون أن يعرف أنه يستخدم البيانات الخطأ. هناك إثباتات كثيرة على انتشار هذه المشكلة، بما في ذلك بيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية.

مشكلة استخدام الملفات القديمة: تقوم المؤسسات والمنظمات التي تُصدر تقارير أسبوعية وشهرية باستخدام ملف الأسبوع أو الشهر السابق لإصدار التقرير الجديد. المشكلة أنه إذا لم يتم الانتباه جيداً للتفاصيل فإن النصّ قد لا يتوافق مع البيانات الجديدة، الأمر الذي يشكّل مشكلة في التقرير. فإذا قامت بعض وسائل الإعلام بالنقل عن نصّ التقرير، فإنها تنقل بيانات الأسبوع السابق. هذه الظاهرة شائعة ضمن مؤسسات نفطية مرموقة عدة.

المشكلة الأخيرة تتعلق بالبيانات الإلزامية. إذا ألزم القانون الشركات بتقديم بيانات قبل وقت معين، وهذه البيانات غير متوافرة، أو أنها تستغرق جهداً لا يرغب الموظف القيام به وقتها، فإنه يتم تقديم أرقام “مخترعة” على أمل أن تُعدّل في المستقبل. هذه الظاهرة شائعة في أماكن عدة، بخاصة أنه لا يوجد اي عقوبات على تقديم بيانات خاطئة. مثلاً، القانون الأميركي يُجبر الشركات على تقديم بيانات المخزون الأسبوعية لإدارة معلومات الطاقة، ولا أحد يعرف حتى الآن مدى دقة هذه المعلومات. كما أن المنظمات الدولية مثل أوبك ومنتدى الطاقة الدولي وغيرهما تطلب من أعضائها تقديم بيانات في أوقات محددة، وبما أنها منظمات دولية فإنها لاتستطيع رفض البيانات لعدم صحتها أو دقتها، ولا تستطيع التشكيك فيها، وعليها نشرها كما هي.

الخلاصة

هناك مشاكل كبيرة في البيانات المتوافرة عن أسواق الطاقة بشكل عام، والنفط والغاز بشكل خاص. إلا أن نوعية البيانات ساءت بشكل كبير في الأشهر الأخيرة، الأمر الذي يفسر التناقض في البيانات والتوقعات، وفشل التوقعات، والخلاف بين دول أوبك نفسها من جهة، وبين أوبك وخارج أوبك من جهة أخرى حول وضع السوق النفطية. لذلك فإن فهم أوضاع السوق واتجاهاتها يتطلّب معرفة وحرفية عالية، وحتى في هذه الحالة، يبقى فشل التوقعات هو الأساس، وتحقّقها هو النادر.

اندبندت