كان مصطفى النحاس، زعيم «حزب الوفد»، يقضى إجازته الصيفية المعتادة فى أوروبا حين تحرك الجيش ضد الملك فيما عرف بداية باسم «الحركة المباركة»، ولتصبح بعد ذلك «ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢»، فسارع النحاس بقطع إجازته والعودة لأرض الوطن على متن طائرة كانت الأولى التى يستقلها فى حياته، فقد كان الحدث جللا ولا يحتمل أى انتظار أو تضييع للوقت. وهو حدث لم يتوقعه أحد رغم كل التطورات والأحداث التى مر بها هذا الجيش فى علاقته مع كل من الملك من ناحية ومع الوفد والنحاس شخصيا من ناحية أخرى فى محطات متعاقبة شارك فى صنعها النحاس نفسه.
أولى هذه المحطات، كانت قيام النحاس كرئيس للحكومة بالتوقيع على معاهدة عام ١٩٣٦ مع بريطانيا. ورغم ما شاب هذه المعاهدة من قصور من حيث استمرار وجود القوات البريطانية فى مصر (وإن اقتصر ذلك على منطقة قناة السويس)، إلا أنه كان من أهم مكاسبها السماح للحكومة المصرية بالعمل على زيادة حجم الجيش المصرى وقوته وصولا إلى المرحلة التى يمكن له معها الدفاع فيها وحده عن البلاد، ودون حاجة إلى وجود قوات بريطانية لهذا الغرض. ونظرا لأن سلطات الاحتلال البريطانية قد دأبت منذ بداية الاحتلال فى عام ١٨٨٢ على تقليص عدد أفراد الجيش المصرى ليصبح مجرد قوة رمزية، فقد كان الدخول إلى الكلية العسكرية يقتصر على عدد محدود من الأفراد يأتى معظمهم من أبناء الطبقة الأرستقراطية والأسرة الحاكمة. ولذلك فقد سارعت حكومة الوفد تحت رئاسة النحاس باشا من فورها وبعد التوقيع على المعاهدة إلى فتح باب الدخول أمام أبناء الطبقة الوسطى للقبول فى الكلية العسكرية تحقيقا لهدف زيادة عدد أفراد الجيش وتوسعته وتقويته بقدر ما تسمح به الظروف. وكان من بين هؤلاء المتقدمين الجدد جمال عبدالناصر وكثيرون من أبناء جيله الذين ما كانوا ليقبلوا فى الكلية العسكرية لولا مصطفى النحاس ومعاهدة ١٩٣٦ والتوسع فى تجنيد أبناء الطبقة الوسطى.
المحطة الثانية جاءت كنتيجة لهذا التوسع فى عدد ضباط الجيش، وما صاحب ذلك من تبعات فى ظل الصراع الذى كان قائما آنذاك بين الوفد كممثل للأغلبية الشعبية، وبين القصر كصاحب السلطة الاسمية، (حيث ظلت السلطة الفعلية بيد بريطانيا). فقد أراد كل من الوفد بزعامة مصطفى النحاس من ناحية والقصر الملكى من ناحية أخرى أن يستقطب هذا الجيش بضباطه الجدد إلى صفه لتقوية مركزه الداخلى فى مواجهة خصومه السياسيين، وهو الأمر الذى أدى لظهور خلاف حول القسم الذى كان على ضباط الجيش أداؤه، وما إذا كان يتضمن الولاء للعرش كما كان يريد الملك، أم الولاء للدستور كما كان يريد النحاس وحزب الوفد. وكان النحاس بعد تجربة إلغاء دستور ١٩٣٠ يهدف إلى تأمين دستور ١٩٢٣ بقوة هذا الجيش وخاصة بعد توسعته بضم ضباط من أبناء الطبقة الوسطى الذين يشكلون القاعدة التقليدية لحزب الوفد. وهو ما كان يعنى عمليا وقوف الجيش فى مواجهة الملك إذا ما حاول العبث بدستور١٩٢٣ مرة أخرى.
ثالث هذه المحطات كانت حادثة ٤ فبراير من عام ١٩٤٢، وذلك عندما اقتحمت القوات البريطانية القصر الملكى فى عابدين بعد أن حاصرته وأجبرت الملك على دعوة النحاس باشا لتشكيل الحكومة. وهو الأمر الذى عده الكثير من الضباط إهانة لرمز البلاد ممثلا فى رأس الدولة وهو الملك، وأفقدهم تعاطفهم مع حزب الوفد وزعيمه الذى تم النظر إليه باعتباره متعاونا مع الإنجليز (بصرف النظر عن حقيقة هذا الأمر من الناحية التاريخية). وهنا يمكن القول إن العلاقة بين الوفد كحزب شعبى يمثل الحركة الوطنية وبين العديد من ضباط الجيش الشبان قد شابها الكثير من الشك والعداء منذ هذه الحادثة. وقد فاقم من هذا الشعور المعادى للوفد ظهور العديد من الأفكار والحركات السياسية التى انتشرت أكثر بعد الحرب العالمية الثانية مع التوسع الذى شهدته الطبقة الوسطى فى حجمها مثل حركة الإخوان المسلمين أو الحركات الاشتراكية واليسارية الأخرى، وقيام هذه الحركات بالبدء فى منافسة الوفد على الساحة السياسية، وقد تعاطف مع هذه الحركات العديد من الضباط الذين شكلوا «تنظيم الضباط الأحرار».
المحطة الرابعة كانت حرب ١٩٤٨ وهزيمة الجيش بها والتى شكلت نقطة مفصلية فى علاقة الكثير من الضباط من أبناء الطبقة الوسطى فى علاقتهم مع الملك والنظام الملكى ككل، بما فيه نخبته الحاكمة من أفراد وأحزاب كحزب الوفد وغيره. ثم توالت الأحداث فى عامى ١٩٥١ ــ١٩٥٢ لتشهد فشل المفاوضات مع بريطانيا ومن ثم إلغاء معاهدة ١٩٣٦، ثم مذبحة الاسماعيلية، فحريق القاهرة، فانتخابات نادى الضباط … الخ (وهو ما شرحت له تفصيلا فى مقال سابق) لتنتهى بقيام الثورة فى يوليو من عام ١٩٥٢.
وكان من الطبيعى أن تؤدى هذه المحطات إلى اختلاف وتباين كبير بين قادة هذه «الحركة المباركة» وبين النحاس وقادة حزب الوفد ومن ورائهم النخبة السياسية آنذاك. فقد كان الخلاف فى حقيقة الأمر بين جيلين مختلفين وجناحين متباعدين داخل الطبقة الوسطى. جيل تكون وعيه فى ظل ثورة ١٩١٩ وتولى قيادته الأفندية من المحامين من أبناء الطبقة الوسطى ذوى الثقافة والعقلية القانونية، وجيل تكون وعيه فى ظل الحرب العالمية الثانية كان من بينهم الضباط ذوو الثقافة والخلفية العسكرية. ولتكون المفارقة التاريخية هنا، أن مصطفى النحاس، صاحب الفضل الأول فى دخول أبناء هذه الطبقة إلى الجيش المصرى، قد أدى بفعله هذا إلى إطلاق سلسلة من الأحداث والتداعيات التى أدت فى نهاية المطاف إلى ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، تلك الثورة التى بالتأكيد لم تكن فى الحسبان حين توسع النحاس فى تجنيد ضباط جدد للجيش، ولتبدأ مرحلة جديدة فى تاريخ مصر بعيدا عن القصر والأحزاب السياسية.
الشروق