يمكن اعتبار وفاة رئيس الجمهورية التونسية، الباجي قايد السبسي، ختاماً لمرحلة هي الأخطر في تاريخ تونس الحديث: لحظة تثبيت الديمقراطية في عالم عربي يعيش استقطاباً فظيعاً، ومحاولات كبيرة لإعادة البلاد إلى الدكتاتورية، أو على الأقل، لجرها إلى حب أهلية.
كان السبسي، في هذه المرحلة، ورغم كل ما يمكن أن ينتقد به، الزعيم القادر على خلق إجماع وطني معقول في مرحلة تأسيسية في تاريخ تونس الحديث، وفي تاريخ العالم العربي أيضاً.
ولعل أهم إثبات على أهمية مثال السبسي التونسي، وللعرب، هو ما يفرقه عن أغلب زعماء الدول العربية، وهو أن رحيله لن يتسبب في حرب أهلية طاحنة، لأنه كان رئيساً عربياً منتخباً ديمقراطياً، ولأنه كان أحد أركان دولة المؤسسات التي نشأت في تونس بعد الثورة، ولم يكن زعيما لطغمة حاكمة دكتاتورية لا يمكن اقتلاعها إلا بالقوة.
لكن فرادة مثال السبسي تتمثل أيضاً في تاريخه السياسي الطويل الذي يجمع بين انتمائه لما يمكن تسميته «المخزن» أو «الدولة العميقة»، وبانخراطه اللاحق في تمكين الديمقراطية. تقلد السبسي مناصب كبرى، بدءاً من فترة حكم الحبيب بورقيبة عام 1963 كرئيس لإدارة الأمن الوطني، وبعدها صار وزيراً للداخلية وسفيراً ووزيراً للدفاع وللخارجية (ويذكر له يومها دوره في قرار إدانة مجلس الأمن للغارة الجوية الإسرائيلية على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط عام 1986)، وبعد انقلاب 7 تشرين الثاني/نوفمبر الذي قاده زين العابدين بن علي تولى رئاسة مجلس النواب، وتابع مشواره كرجل «المخزن»، وكمساهم في حماية الإرث الديمقراطي للثورة، برئاسة الحكومة المؤقتة ثم ترشح للانتخابات الرئاسية كزعيم لحزب «نداء تونس» وفاز فيها عام 2014.
يحتسب للسبسي، رغم مواقفه الناقدة للإسلاميين، أنه لم ينقد إلى المحاولات المسعورة التي قادتها دول عربية، وساهمت فيها قوى سياسية تونسية استئصالية، حملت على عاتقها مكافحة التجارب الديمقراطية في العالم العربي بزعم «مكافحة الإرهاب»، وقد أدى ذلك، كما هو معلوم، إلى نتائج كارثية في اليمن وليبيا ومصر وسوريا.
أحد الانتقادات الأساسية التي وجهت للسبسي كانت ليونته تجاه محاولات نسخ التجارب السياسية العربية البائسة للتوريث، عبر عدم استنكاره الصريح لخطوات ابنه حافظ السبسي للسيطرة على الحزب الذي أسسه (ومن ثم الوصول إلى الرئاسة)، وهي تجربة تكفلت النخبة السياسية التونسية بلجمها عبر الانشقاقات التي تعرض لها «نداء تونس»، والرفض الذي قوبل به مشروع التوريث.
إعلان الهيئة المستقلة للانتخابات التونسية موعداً قريباً للانتخابات الرئاسية، في أيلول/سبتمبر المقبل، يظهر أن الدور الذي لعبه السبسي في حماية المرحلة الانتقالية والمؤسسات والديمقراطية كان دوراً تأسيسياً، وهو، للحقيقة، ما كان لينجح لولا خبرته السياسية العميقة، من دون أن ننسى طبعاً دور حركة «النهضة» التي حافظت بدورها على التوازنات السياسية الداخلية والإقليمية والعالمية، ولم تسمح لأصابع السوء أن تهز الشراكة بين التيارات السياسية التونسية المختلفة.
لقد سمي الرئيس التونسي على اسم أحد شيوخ التصوف سيدي بوسعيد الباجي، وقاد تياراً ينادي بالحداثة والعلمانية، وتشارك السلطة مع الإسلاميين، فجمع التناقضات والاختلافات (التي هي أحد تعبيرات الديمقراطية)، وبذلك تمكن من رئاسة البلاد، وأعطى مثالاً عظيماً يحتذى من التونسيين والعرب.
القدس العربي