نجم عن إنهاء المعاهدة التاريخية بين الولايات المتحدة وروسيا التي أزالت فصيلة من الصواريخ النووية والتقليدية وخفضت بشكل كبير من احتمالات أن تصبح أوروبا حلبة صراع بين القوتين العظميين، حال من عدم اليقين والمخاوف من وقوع سباق تسلح جديد بينهما.
وكانت “معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى” (“آي إن إف”) حظرت استخدام كل أنواع الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، حيث تم تعطيل حوالى 2.700 صاروخ منها وإعطاء الطرفين مجالاً لم يسبق له مثيل لإشراف كل طرف منهما على ترسانة أسلحة الآخر.
كذلك، كان توقيع كل من الرئيسين الأميركي، رونالد ريغان، والسوفياتي ميخائيل غورباتشوف، عام 1987 بادرة رمزية سلطت الضوء على انتهاء الحرب الباردة. وآنذاك، صرح الرئيس الأميركي بأنه ما عاد ينظر إلى الكرملين باعتباره مركز “إمبراطورية الشر”، بينما أعلنت مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء المملكة المتحدة، أن الزعيم الروسي رجل يستطيع الغرب “التعامل معه”.
وعلى الرغم من أن دونالد ترمب اعتُبر مرشح موسكو المفَّضل للبيت الأبيض خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، ووده الظاهر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن الخصومة المتزايدة بين البلدين على قضايا تخص الحد من الأسلحة، لم تنتهِ في عهد الإدارة الأميركية الحالية.
فقبل ستة أشهر، حدد ترمب الثاني من أغسطس (آب) آخر موعد للولايات المتحدة كي تنسحب من “معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى” إذا لم تتراجع موسكو عن إجراءات تزعم واشنطن أنها تخل ببنود المعاهدة. وفي يوم 3 يوليو(تموز) السابق، جمّدت روسيا نزولاً على قرار وقعه الرئيس بوتين، مشاركتها في المعاهدة.
وكانت هناك مزاعم من عدم التزام كلا الطرفين في السابق بنود المعاهدة. لكن الأمور برزت إلى السطح في بداية هذا العام حين اتهمت واشنطن وحلف شمال الأطلسي، الناتو، روسيا بتجاوز المعاهدة حين نشرت موسكو صواريخ كروز “9 أم 729″، المسماة “أس أس سي – 8 وفق شيفرة الناتو.
غير أن موسكو أنكرت التهمة وادعت أن الغرب يحاول إيجاد طريقة للتراجع عن المعاهدة. وأعلنت أن نشر منظومات دفاعية أميركية مضادة للصواريخ، وقابلة لأن تحول إلى قاذفات لإطلاق صواريخ متوسطة المدى هو انتهاك بحد ذاته لبنود الاتفاقية.
ولام وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، من جانبه، موسكو على إنهاء معاهدة “القوى النووية المتوسطة المدى” حيث علق قائلاً: “روسيا هي المسؤولة الوحيدة عن إلغاء المعاهدة. ومع الدعم الكامل لحلفائنا في الناتو، وجدت الولايات المتحدة أن روسيا تجاوزت المعاهدة”.
وأضاف بومبيو أن “روسيا فشلت في العودة إلى الامتثال الكامل والثابت من خلال تدمير منظومة صواريخها غير الخاضعة لبنود المعاهدة، لذلك فنحن قررنا وقف التزامنا بها”.
وفي السياق ذاته، قال وزير الخارجية البريطاني الجديد، دومينيك راب، على موقع تويتر إن “روسيا تسببت في انهيار معاهدة “آي إن إف” وذلك من خلال تطوير ونشر منظومة صواريخ تنتهك بنودها وقادرة على استهداف العواصم الأوروبية. ويهدد ازدراء روسيا القواعد المستندة إلى نظام عالمي الأمن الأوروبي. والمملكة المتحدة تدعم كلياً رد الناتو”.
في المقابل، أصر نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، على أن المعاهدة ألغيت “بمبادرة من الولايات المتحدة”، وطالب واشنطن بأن توافق على تعليق نشر الصواريخ النووية القصيرة والمتوسطة المدى في أوروبا.
أما الأمين العام للناتو، ينس ستولتنبرغ، فقد اعتبر هذه الدعوة كاذبة. وبهذا الصدد قال: “هذا ليس عرضاً يُعتد به لأن روسيا نشرت الصواريخ منذ سنين. ويفتقر عرضهم تعليق نشر الصواريخ التي كانوا قد قاموا بنشرها بالفعل، إلى أي صدقية”.
وشدد ستولتنبرغ على أن صواريخ كروز الروسية قادرة على “الوصول إلى مدن الاتحاد الأوروبي، خلال دقائق فقط من وقت التنبيه… فهي صواريخ متنقلة مقتدرة، من الصعب رصدها، وتخفض الحد الأدنى الفاصل في استخدام الأسلحة النووية إذا وقع نزاع مسلح”.
وأكد ستولتنبرغ أن الناتو “سيرد بطريقة محسوبة ومسؤولة على المخاطر الجسيمة لصاروخ 9 أم729 الروسي على أمن الحلفاء”.
وأضاف الأمين العام للناتو، أن تحالف الناتو “لا يريد سباق تسلح جديد”، وأشار إلى أن الحلفاء لا يخططون لينشروا صواريخ نووية برية على أراضي أوروبا.
وكان البنتاغون من جانبه، يعمل على منظومة إطلاق صواريخ متحركة ضمن قيود معاهدة “آي إن إف”. وتضمنت موازنة الإدارة الأميركية للسنة المالية 2020، التي نشرت في فبراير(شباط) الماضي – وفيها قدم ترمب إشعاراً لروسيا بخصوص إلغاء المعاهدة- مبلغ 96 مليون دولار أميركي لمواصلة البحث والتطوير في الصواريخ.
وكانت الخطة ضمن قيود “معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى” (“آي إن إف”)، لكن مع إلغائها أصبح بالإمكان تعديل البرنامج.
وأمام هذا الوضع الجديد حذر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، من أن إنهاء معاهدة “آي إن إف” يعني أن “العالم سيفقد كابحاً لا يقدر بثمن لحرب نووية، وهذا من المرجح أن يرفع، لا أن يخفّض التهديد الناجم عن الصواريخ الباليستية”.
وحث غوتيريش الولايات المتحدة وروسيا على السعي “العاجل إلى اتفاقية على مسار مشترك جديد للسيطرة على الأسلحة على المستوى العالمي”.
وكان ميخائيل غورباتشوف وجد مثل هذا المسار المشترك، وكان له هو الآخر هواجس من المستقبل. وفي موسكو قال الزعيم السوفياتي السابق، وهو اليوم في الثامنة والثمانين من عمره، إن المرء كان يتوقع أن تحل الخلافات بين الجانبين، وتكلم عن عواقب عدم تحقق ذلك.
وفي هذا الصدد قال غورباتشوف “كانت ثمة آمال معقودة على شركائنا التي، وللأسف، لم تتحقق. أظن أننا جميعاً نرى الآن أن الأمن (العالمي) الإستراتيجي تلقى ضربة”.
وثمة إنجاز آخر موروث من حقبة الحرب الباردة، يتمثل في “معاهدة ستارت الجديدة” التي تقيد الأسلحة النووية البعيد المدى، تنتهي صلاحيتها في فبراير (شباط) 2021.
وهذا ما جعل غورباتشوف يدعو جميع الأطراف إلى التركيز على “الحفاظ على آخر ركن من أركان الأمن الإستراتيجي العالمي”.
غير أن هذا الخيار يبدو غير مؤكد. فكبير الصقور في الإدارة الأميركية، جون بولتون، مستشار الأمن القومي للرئيس دونالد ترمب، أوضح موقفه. فمن وجهة نظره، تحمل الاتفاقية “عيوباً” لذا، “من غير المرجح تمديد العمل بها… لماذا تمدد نظاماً تشوبه شوائب لكي تقول فقط إن لديك معاهدة؟”.
اندبندت العربي