حدثان لم تفصل بينهما إلا أيام قليلة، كانت كفيلة بإحداث قلق واسع تجاه سيناريوهات مستقبلية تدفع باتجاه حرب باردة جديدة لن تقتصر على موسكو وواشنطن، فقد تصبح ثلاثية الأبعاد بدخول بكين طرفا فيها.
الحدث الأول تمثل في انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة حظر الصواريخ النووية المتوسطة المدى الأسبوع الماضي، التي وقعتها مع روسيا قبل ثلاثين عاما، وبمقتضاها تخلص الطرفان مما يقرب من ثلاثة آلاف صاروخ مع تعهد بعدم إنتاج المزيد منها.
والحدث الثاني تمثل في حديث وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر عن تأييده نشر صواريخ متوسطة المدى تطلق من البر في جنوب آسيا خلال شهور قليلة.
وكانت إستراتيجية الأمن القومي الأميركي في بداية عهد دونالد ترامب قد أشارت صراحة إلى أن الصين وروسيا تسعيان إلى تحدي قوة ونفوذ ومصالح الولايات المتحدة، في محاولة للإضرار بأمن ورخاء الشعب الأميركي.
تصعيد ضد الصين
أشارت إستراتيجية الدفاع الوطني الصادرة من البنتاغون منتصف عام 2018 بوضوح إلى الصين على أنها “منافس إستراتيجي يسعى لتحديث قواته المسلحة لضمان سيطرته الإقليمية على المحيط الهادي وجنوب آسيا، ومقارعة نفوذ الولايات المتحدة العالمي”.
ويرى ترامب أن علاقات بلاده بالصين يمكن وصفها “بمنافسة بين قوى كبرى”، ومع مرور أربعين عاما على التأسيس الحديث لعلاقات الدولتين، تشير تطورات أخيرة إلى أن العلاقات لن تعرف إلا التصعيد في المستقبل المنظور.
وأخذت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين منحى خطيرا بتصنيف وزارة الخزانة الأميركية الصين دولة متلاعبة بالعملة، وردت الصين بأن قرار واشنطن سيلحق “ضررا هائلا بالنظام المالي العالمي وسيسبب فوضى في الأسواق المالية”.
وسبق تلك الخطوة فرض ترامب رسوما جمركية على ما قيمته 300 مليار دولار من الواردات الصينية.
ثم جاء انسحاب واشنطن من معاهدة الصواريخ وإعلان وزير الدفاع إمكانية نشر صواريخ قرب الحدود الصينية ليبعث برسالة على عزم واشنطن احتواء النفوذ الصيني العسكري، وتقوية التحالفات العسكرية مع دول مجاورة للصين.
وجاء رد الفعل الصيني قويا، حيث قالت الخارجية الصينية إن “الصين لن تبقى مكتوفة، وستكون مضطرة إلى اتخاذ تدابير انتقامية في حال نشرت الولايات المتحدة صواريخ متوسطة المدى في هذه المنطقة”.
ويتيح انسحاب واشنطن من المعاهدة النووية مع روسيا سهولة مجابهة الطموحات العسكرية للصين، إذ يشمل القسم الأكبر من الترسانة الحربية الصينية أسلحة حظرتها المعاهدة على الولايات المتحدة.
ويعتقد خبير شؤون التسليح الدولي ستيفن سيستانوفيتش أن أي جهود لوقف سباق التسلح يجب أن تضم الصين، إلا أنه أشار إلى عدم وجود أي مغريات للصين للانضمام في الوقت الراهن، وستقوم بهدوء بإنتاج المزيد من الصواريخ دون أي عوائق، وهو ما قد يكون ساهم في دفع الروس لانتهاك القيود التي تحجم إنتاجهم.
التنسيق الروسي الصيني
قضايا إقليمية مختلفة تعقد علاقات واشنطن بالصين وروسيا معا، إذ تمتلك الأخيرتان حق النقض داخل مجلس الأمن.
فرضت واشنطن عقوبات صارمة على موسكو بسبب محاولة قتل الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال عام 2018، بعد عقوبات أخرى بسبب ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية إليها.
ولم تعرقل بكين ولا موسكو جهود واشنطن الدبلوماسية ضد كوريا الشمالية أو إيران، إلا أن الأمر اختلف بخصوص سوريا وفنزويلا.
ووجه مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون هذا الأسبوع تحذيرا إلى روسيا والصين بخصوص موقفهما الداعم للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بالقول إنه “أمر لا يحتمل”.
وتتنافس الصين وروسيا على النفوذ في جمهوريات آسيا الوسطى، التي تعدها الصين بوابة للتأسيس لنفوذ عالمي، في وقت تعتبرها موسكو إرثا سوفياتيا يجب الحفاظ عليه. وجاء إطلاق الصين لمبادرة “الحزام والطريق” لتكشف عن قلق روسي من التمدد الصيني.
ولا يعتقد على نطاق واسع داخل واشنطن أن هناك عودة لسباق التسلح مع روسيا، ويرى مراقبون أن الخطر الحقيقي تمثله الصين التي لا تتوقف عن إنتاج أسلحة متطورة في وقت تشهد فيه ميزانيتها العسكرية زيادات بنسب كبيرة سنويا.
وطبقا لبيانات مؤسسة أي أتش أس الاستشارية تقدر ميزانية واشنطن الدفاعية لعام 2018 بـ 703 مليارات دولار، في حين حلت الصين ثانية بـ 207 مليارات دولار، أما روسيا فحلت سابعة بميزانية تقدر بـ 53 مليار دولار.
ولا يرى كثير من الخبراء أن هناك حربا باردة بعد، لكنهم يعتقدون أن الخطر الأكبر يتعلق بقرب انتهاء المدى الزمنى لمعاهدة ستارت عام 2021، المتعلقة بالحد من إنتاج ونشر الصواريخ الإستراتيجية النووية الطويلة المدى وتنطبق على روسيا والولايات المتحدة.
فهل ستنضم الصين إليهما ويتوسع العمل بالاتفاقية؟ أم سترفض الصين أي قيود على برامج تسليحها؟ ليبدأ فصل جديد من سباق التسليح بين بكين وواشنطن وموسكو.
المصدر : الجزيرة