إذا كانت تغريدات دونالد ترمب الأخيرة تحمل أي دلالة، فإن على رئيس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) جيروم بأول ألا يتوقع أن تتضمن دعوة له إلى منتجع “مار الاغو” قريبا.
وهذا يعود إلى أن اسم باول صار على قائمة أعداء ترمب بعد قراره بتخفيض معدل الفائدة المعياري بـ 25 نقطة، أو 0.25%. وهذه محاولة لتحصين أطول توسع اقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة، إذ بلغ حتى الآن 121 شهرا متعاقبا، بدءاً من يونيو(حزيران) 2009.
وكان ترمب عبَّر عن غضبه على صفحته في موقع تويتر، قائلا إن “احتياطي باول الفيدرالي يخطئ دائما في كل خطوة يتخذها، بما يخصّ معدلات الفائدة”. وعلى صفحته نفسها، واصل ترمب التعبير عن غضبه، فيما أهمل مبادئ اقتصادية ظلت سائدة عقودا في الولايات المتحدة، ليؤكد دعمه لـ “دولار ضعيف” مستند بقدر أكبر، وأكثر هجومية، إلى تخفيض متكرر لمعدلات الفائدة.
يمكن القول إن دعم ترمب لدولار ضعيف يقوض آخر تصريحات وزير المالية ستيف منوخين، الذي حاول أخيراً أن يُطمْئِن المستثمرين العالميين إلى أن الولايات المتحدة لن تدخل في دوامة تخفيضات متكررة لقيمة العملة. وإذا كان العالم يتطلع إلى الولايات المتحدة لإيضاح سياستها في هذا الشأن، فإن الرسالة التي جاءت من واشنطن يمكن أن تكون قد اشتملت على أي شيء ما عدا الإيضاح المطلوب.
أما دوافع ترمب فلاتخفي نفسها، فهي على عادتها ترمي إلى خدمة مصالحه الذاتية. على الرغم من أن المزارعين والعمال الصناعيين والمستهلكين باتوا يشعرون بتأثير حروبه الاقتصادية الموسعة مع الصين، على أوضاعهم بشكل سلبي، إلا أن الرئيس ظل متمسكا بشن هذه الحروب. فغروره ، وحملته عبر الرسائل، يمنعانه من التراجع، لكن هناك علامات متزايدة على بروز اضطراب يتعلق بسياسته الجمركية، في الولايات التي تعد أساسية في استراتيجيته لإعادة انتخابه.
لا تستطيع الشركات الزراعية الكبرى مثل “جون ديير” سلفاُ تحقيق الأرباح المتوقعة، وهي تتكهن بمزيد من التراجع في أرباحها نتيجة لدوامة حروب ترمب التجارية مع الرئيس الصيني شي جينبنغ. في الوقت نفسه، بدأت أسعار السلع المستوردة مثل الجلايات الكهربائية وأجهزة التدفئة المنزلية بالارتفاع. وحسبما أشار جيفري بارتاش من مركز “ماركت واتش” المالي، فإن المستهلكين الأميركيين الذين يفكرون بشراء جهاز تدفئة منزلي استعداداً للشتاء، يمكنهم أن يتوقعوا دفع مبلغاً معدله الوسطي يتراوح بين 150، 250 دولارا زيادة على سعره في السنوات السابقة.
أما مزارعو فول الصويا الذين يحتل محصولهم ثاني أكبر منتج من حيث عائدات التصدير إلى الخارج ، فهم يواجهون عراقيل هائلة لأن الصين، التي تشتري ما يقرب من 25% من إنتاج فول الصويا الأميركي، قررت ألا تشتريه. صدّر المزارعون الأميركيون في عام 2014 كميات من محاصيلنا إلى الصين بلغت قيمتها 24 مليار دولار، بينما وصلت حالياً قيمة المحاصيل المصدّرة للصين حوالي 9 مليارات دولار، ومن المتوقع أن تهبط الأرباح أكثر مع تراجع أسعار فول الصويا.
وبالنسبة إلى المزارعين وعمال المصانع في أوهايو، التي فاز ترمب فيها بثماني نقاط على منافسته هيلاري كلينتون، فقد هزّت صدمة الحرب التجارية مع الصين القاعدة الأساسية لأنصار الحزب الجمهوري. وأظهر آخر استطلاع للرأي نظمته جامعة كوِنِبْياك في أوهايو كيف أن مشاعر الناخب تغيرت بحدة، فترمب يأتي حالياً خلف مرشحين ديمقراطيين مثل بايدن بثماني نقاط.
غير أن الصورة تبدو أسوأ في ولايات تعتمد على تجارة جيدة مع الصين. ففي ولاية مثل آيوا الغنية بالإنتاج الزراعي التي تقدمّ ترمب فيها بهامش قدره 10 نقاط على منافسته كلينتون عام 2016، يبدو الرئيس حالياً متخلفاً بستّ نقاط عن الديمقراطي الأوفر حظا في الفوز بترشيح حزبه للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2020.
يتضح من كل ذلك أنه كلما لامست حرب الرئيس الأميركي التجارية منطقة كلما تبخر فيها الدعم لإعادة انتخابه. و تبدو هذه الأرقام مروعة بالنسبة للمرشحين الذين يهجسون باستطلاعات الرأي مثل ترمب.
وإذ يجد الرئيس نفسه محشوراً في الزاوية بعد قرار الصين الأخير بتجميد مشترياتها الزراعية من الولايات المتحدة، التي من المحتمل أن تصل إلى الصفر بسبب التناقص التدريجي لحجم الصادارت الضئيل سلفاً بقيمة 9 مليارات دولار، فإن أمله الوحيد هو بتملق الاحتياطي الفيدرالي من أجل تخفيض معدلات الفائدة لتحقيق إنعاش قصير الأمد للاقتصاد. إلا أن المشكلة هي أن جيروم بأول لا يبدو سريع التأثر بتنّمر البيت الأبيض.
ولو أن باول رضخ لمشيئة ترمب وخفَّضَ معدلات الفائدة اليوم، فإن المستهلكين الأميركيين سيرون ازدهارا مؤقتا في أوضاعهم الاقتصادية. ومثلاً، ستكون استدانة المال على شكل قروض عقارية أرخص. كذلك ستجعل معدلات الفائدة المنخفضة صادرات الولايات المتحدة أرخص في الخارج، ما سيحّفز الشركات، كما يأمل ترمب، على تحقيق أرباح أكثر، مما سيؤدي بشكل غير مباشر إلى إحداث صدمة صاعقة للتشغيل يمكنها أن تخفّض من معدل البطالة الذي هو الآن في مستوى منخفض.
غير أن باول، على عكس ترمب، يفكر بلعب لعبة أطول أمداً. فتخفيض معدلات الفائدة لا يعني جعل صادرات الولايات المتحدة أكثر تنافسيةً. فذلك سيرفع أسعار السلع المستوردة من الخارج. وهذا سيحمّل الشركات المتضررة بالرسوم المفروضة من جانب الصين على سلعها، وبالحرب التجارية المتنامية، إلى البدء بدفع مزيد من المال لقاء المواد الخام التي تصنع منها منتجاتها. إضافة إلى ذلك، فإنها ستشجع على الاقتراض والانفاق، على الرغم من أن الديون الشخصية للأميركيين قد خرقت الآن رقما قياسيا.
وإذ تؤدي الحرب التجارية مع الصين من جهة، وإنفاق الجمهوريين الجامح من جهة ثانية، إلى المغامرة بدفع الولايات المتحدة إلى الوقوع في أتون أول ركود اقتصادي خلال عقد، فليس واضحا إذ كان ترمب يفهم الضرر الذي ألحقته السياسات التجارية التي يعلن عنها عبر موقع تويتر ، بالمستهلكين الأميركيين.
فعبر التهديد والوعيد والغرور الأحمق، سار الرئيس ترمب بقدميه آخذاً معه الولايات المتحدة، إلى مأزق اقتصادي. وأمام هذا الوضع، يمكن القول إن خبراء الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وشارع المال “وول ستريت”، أثبتوا عدم رغبتهم في الالتحاق به. ونحن نأمل أن يبقوا متمسكين باستقلاليتهم بقوة.
اندبندت العربي