تشكيل الشرق الأوسط الحديث كان إلى حد كبير من نتاج الحروب. وإعادة التشكيل جرت على مراحل من خلال التبدل في أهداف الحروب وأصحابها. المرحلة الأولى دشنتها الحرب العالمية الأولى، بحيث سمح سقوط السلطنة العثمانية للدول الأوروبية المنتصرة، وأبرزها بريطانيا وفرنسا، برسم خرائط البلدان التي وقعت تحت انتدابها. المرحلة الثانية نضجت في الحرب العالمية الثانية وفتحت أمام دول سايكس-بيكو وسواها أبواب الاستقلال ومعها تحدي قيام إسرائيل وحروبها التي فشل العرب في منع تلاعبها بخريطة فلسطين وخرائط الدول المسماة “دول الطوق”. المرحلة الثالثة بدأت بالغزو الأميركي للعراق وإسقاط نظامه، بعد نحو عقد من حرب “عاصفة الصحراء” التي أخرجت القوات العراقية من الكويت وفتحت الطريق أمام “نظام عالمي جديد” ومسار “مؤتمر مدريد” للسلام بين العرب وإسرائيل، على ساعة الرئيس جورج بوش الأب. أمّا الغزو أيام الرئيس بوش الابن، فإنه ارتبط بالعمل على إقامة “الشرق الأوسط الواسع”، كما قالت مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس، و”إعادة هيكلة” المنطقة، على حد تعبير وزير الخارجية الجنرال كولن باول. وكان الخيار العسكري الأميركي المباشر تكريساً لعودة القوى الكبرى إلى ممارسة سياسة القوة في الشرق الأوسط بعد عقود من العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي على مصر، الذي أسهمت واشنطن وموسكو في إفشاله.
ونحن الآن في المرحلة الرابعة، حيث التدخل العسكري الدولي والإقليمي في حروب سوريا والعراق واليمن وليبيا. الدول الكبرى، خصوصاً أميركا وروسيا، تقاتل من أجل الأدوار والنفوذ والمصالح. والدول الإقليمية، ولاسيما إيران وتركيا، تقاتل من أجل النفوذ وسط طموحات لاستعادة الإمبراطورية الفارسية والسلطنة العثمانية. أمّا إسرائيل، فإنها تحارب من أجل التوسع، وحيناً من أجل الحفاظ على ما احتلته من الأرض العربية، وحيناً آخر لمنع أي قوة من تهديد أمنها، وعلى العموم للهرب من التسوية السياسية للصراع وبالذات من “حل الدولتين”. والطابع العام لهذه المرحلة ليس تغيير حدود الدول، بل تغيير الأنظمة داخل الحدود أو الحفاظ على الأنظمة كما تفعل موسكو.
والمشهد بالغ التعبير في صراعات تبدو مترابطة يكاد يكون الصراع الأميركي-الإيراني مركز الدائرة فيها. فما يفرضه زحام المصالح هو “تنظيم الصراع”. وما يتقدم العناوين، بقوة الأشياء، هو “قواعد الاشتباك” من لبنان إلى اليمن مروراً بسوريا والعراق وإيران وصولاً إلى ليبيا. ففي بداية حرب سوريا كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله يقول لخصوم النظام السوري من اللبنانيين: تعالوا نتقاتل في سوريا ونحيّد لبنان. واليوم بعدما كان حزب الله يصمت على أي ضربة إسرائيلية له في سوريا، صارت المعادلة هي الرد من لبنان على أي ضربة في سوريا ولبنان. وليس سراً أن القصف الإسرائيلي للقوات والصواريخ الإيرانية في سوريا يسمح به تفاهم أميركي – روسي. أمّا القصف الإسرائيلي للصواريخ الإيرانية لدى الحشد الشعبي في العراق، فإنه يحظى بتفهم أميركي وصمت روسي.
والمعادلة هي: ممنوع القصف على إيران نفسها ومقبول ضمناً أن ترد عبر وكلائها ضمن ما يهدد به دائماً قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني: “الحروب اللامتماثلة”. وإذا كانت أميركا وإيران تجمعان بين العداء والتساكن في العراق، فإن روسيا وسوريا وإيران والعراق تشارك في “مركز بغداد للمعلومات العسكرية” الذي صارت الصين تنسق معه. والأرض والجو في سوريا ضمن ترتيب أميركي – روسي تشارك فيه إسرائيل، وترتيب روسي – إيراني – تركي. والكل في ليبيا. وقمة الصراع العربي – الإيراني في اليمن.
والترجمة العملية لذلك هي الدخول في “ستاتيكو” متحرك قليلاً ضمن صراعات وأزمات حادة. والسؤال البسيط هو: إلى أي حد يمكن الحفاظ على هذا “الستاتيكو”؟ هل يستطيع لبنان أن يحفظ رأسه حين يُفرض عليه أن يكون جبهة أمامية للدفاع عن المشروع الإيراني، ويطالبه قائد قوات “اليونيفيل” بأن “تبقى المنطقة جنوب الليطاني خالية من أي أسلحة ومسلحين غير تابعين للحكومة والقوات الدولية؟”. سوريا واليمن وليبيا إلى أين في حل عسكري لا ينتهي وحل سياسي لا يبدأ؟ واللعبة بين أميركا وإيران إلى أين وسط “الضغط الأقصى” الأميركي والحرص الإيراني على المواجهة؟ وهل يمكن الاستمرار في تجاهل حقوق الفلسطينيين في دولة من دون انتفاضة ثالثة ورابعة وسط رغبة إسرائيل في ضم مستوطنات الضفة الغربية بعد ضم القدس والجولان؟
الرهان على الاستمرار في “تنظيم الصراع” وإدارة “قواعد الاشتباك” صار مهمة مستحيلة. والكل في النهاية محكوم بالخروج من الستاتيكو الخطير: إما عبر صفقة سياسة كبيرة، وإما بالحرب.
اندبندت العربي