يبدو أن جلسات مجلس النواب العراقي في الأسبوع المقبل ستشهد نقاشات جادة على وقع مستويات التصعيد الأمريكي- الإيراني في المنطقة، وتأثيرات ذلك التصعيد على العراق، فهناك ثلاث قضايا مهمة سوف تطرح على جلسات المجلس الأولى: ملف خروج القوات الأمريكية والتحالف الدولي من العراق، والثانية: تتعلق بمناقشة اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق، فمنذ توقيعها ولغاية الآن، لم يتضح فيها من هو المسؤول عن حماية المجال الجوي العراقي، هل هي مسؤولية عراقية، أم أنها مسؤولية أمريكية، أما الملف الثالث: فيتعلق بإمكانية مساءلة واستجواب طاقم وزراء الحكومة العراقية أو بعض منهم.
بالنسبة لخروج القوات الأمريكية من العراق، فمن المعروف أن أموال العراق من عائدات النفط تحفظ في المجلس الاحتياطي الأمريكي، وهو المسؤول عن أموال العراق، وفي هذا السياق، فإن قانون أو قرار يصدر عن مجلس النواب في اتجاه إخراج القوات الأمريكية من العراق، قد يدفع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عبر وزارة الخزانة الأمريكية بفرض إجراءات قاسية متعددة الجوانب، فعلى سبيل المثال على تلك الإجراءات، ستكون كل الاموال العراقية عرضة للملاحقة القضائية، علما انها محمية الآن بمرسوم رئاسي استنادا للاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، وفي حالة الإلغاء سيعاد فتح ملف التعويضات، وكذلك الاتهامات للعراق بدعم الارهاب، وخسائر الشركات الامريكية قبل 2003، وسوف تحجز الاموال العراقية لحين حسم الدعاوى، ناهيك عن ايقاف ارسال عملة الدولار للعراق الذي سوف يوقف الكثير من الالتزامات، ويعجز العراق في ظرف شهرين الى ثلاثة أشهر، عن دفع رواتب موظفيه وخاصة موظفي السفارات في الخارج، والتزامات العراق الدولية والتزاماته تجاه الشركات وخاصة شركات النفط، وستكون البلاد في حالة شلل تام أشبه بأيام الحصار في تسعينيات القرن الماضي، مع اختلاف بسيط، فالإقدام على مثل هكذا خطوة هو لعب بالنار ومخاطرة لا مبرر لها.
على مجلس النواب العراقي أن يفكر بشكل عميق قبل اتخاذ أي قرار أو قانون قد يشكل خرابًا على أمن واقتصاد العراق، وعليه أيضًا أن تنبع أن تكون قراراته وقوانينه انسجامًا لمصالح الشعب العراقي العليا، وليس نزولًا عند المصالح الأمريكية أو الإيرانية، فهو مجلس نواب يمثل الشعب العراقي تحت قبة المجلس ولا يمثل طهران ولا واشنطن بالوكالة، فالشعب العراقي لن يقبل أن يكون حبيس قرارات أو قوانين تزيد من معاناته الاقتصادية، فإذا أصدر مجلس النواب العراقي ذلك القرار أو القانون، فالكل في العراق خاسر وفي مقدمتهم الطبقة السياسية العراقية.
لذلك يجب أن يكون هناك حوار بين اللجان المالية والأمنية والدفاع المنبثقة عن مجلس النواب ورئاسة الوزراء ومحافظ بنك المركزي للوصول إلى تفاهمات سياسية وقانونية واقتصادية تجنب العراق المخاطر.
أما فيما يتعلق باتفاقية الاطار الاستراتيجي، لغاية الآن الأمر ملتبس بين الحكومة العراقية ومجلس النواب العراقي من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، حول الجهة المسؤولة عن حماية المجال الجوي العراقي، فبحسب الاطار الاستراتيجي لا توجد فيه صيغة قانونية تشير بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي المسؤولة عن حماية ذلك المجال، كما أنه لا يوجد صيغة قانونية بأن العراق قد يطلب من الولايات المتحدة الأمريكية تقديم المساعدة اللازمة لحماية المجال الجوي العراقي.
ويرى بعض المتابعين للشأن العراقي أن اتفاقية الاطار الاستراتيجي واتفاقية سحب القوات الموقعة في عام 2008، كانت تؤكد مسؤولية القوات الامريكية لحماية اجواء العراق بعد 45 الف قدم ، أما ما دون ذلك فهي مسؤولية الحكومة العراقية ، وان جميع الطائرات المسيرة –الدرون- تطير ضمن مدى اقل من 45 الف قدم ، اي ضمن مسؤولية الحكومة العراقية.
لذا على الحكومة العراقية والإدارة الأمريكية ممثلة بسفارتها في بغداد أن تضعا النقاط على الحروف لمعرفة حدود تلك الاتفاقية وما يترتب على طرف من مسؤوليات ، وهذا الأمر يتطلب منهما أن يكونا على درجة عالية من الوضوح والمصداقية.
أما الملف الثالث، فيتعلق بمساءلة واستجواب مجلس النواب العراقي لبعض الوزراء ، الأمر الذي قد يصل إلى إقالة أو استقالة رئيس مجلس وزراء العراق عادل عبد المهدي.
الكل يعلم بأن هناك أزمة سياسية بين «الحشد الشعبي» ومؤسسات الدولة العراقية ، والتكهنات حول مستقبل الحكومة العراقية، باعتبار أن حكومة الدكتور عادل عبد المهدي جاءت نتيجة تسوية نيابية جرت بين أكبر كتلتين برلمانيتين: «سائرون» بزعامة السيد مقتدى الصدر، و«الفتح» بزعامة هادي العامري المدعومة من «الحشد الشعبي»، بعد جدل «برلماني – قضائي» حول تسمية «الكتلة الأكبر» التي يعود لها الحق دستورياً في تسمية رئيس مجلس الوزراء، حيث ذهبت بعض الأطراف العراقية إلى اعتبار أن التسوية الإقليمية الدولية التي تحمي الحكومة شارفت من نهايتها نتيجة تصاعد التوتر الإيراني – الأميركي في المنطقة، الذي انعكس مباشرة على علاقة «الحشد» بالحكومة ، ورفضه الالتزام بقراراتها، خصوصاً المتعلقة بكيفية الرد على الضربات الجوية لقواعده، لكن محاولات «الحشد» التمرد على مؤسسات الدولة سرعان ما تحولت إلى أزمة داخلية بين أقطابه، أظهرت عدم تماسكه وكشفت عن صراع تيارات أضعف موقفه أمام الأغلبية العراقية المطالبة بحصر السلاح بيد الدولة والالتزام بالقرارات السيادية العراقية.
إلا أن هذه الأزمة وهذا الصراع بين أقطاب الحكومة أعطيا رئيسها هامش مناورة جديدة، يمكّنه من تحصين موقفه، وتحسين شروطه، بعد محاولات أطراف التسوية فرض أجندتها على عمل الحكومة، ففي مرحلة حرجة يرتفع فيها مستوى الانتقادات للحكومة، وتزداد الدعوة إلى محاسبتها بعد عشرة أيام على تشكيلها في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي.
لقد كفل الدستور العراقي لمجلس النواب العراقي الحق في مساءلة واستجواب الحكومة العراقية، وأنها حكومة وزاراتها المتهمة بقضايا الفساد، والذين يتهمون الحكومة بذلك، هم أصلًا أعضاء في تلك الحكومة، بينما عادل عبدالمهدي رئيس وزراء العراق ليس لديه وزيرًا في الوزارة أو نائبًا في مجلس النواب محسوب على تياره السياسي، فمن هو الفاسد إذن؟!
ومع ذلك، يسجل عادل عبد المهدي نقاطًا مهمة لصالحه، تخفف من حجم الضغوط عليه، وتعطيه فرصة قد لا تتكرر، تساعده على إعادة ترتيب أولوياته، والمضي بخطوات أسرع نحو تحقيق بعض شعارات الإصلاح، واستقلاليةٍ، ولو محدودة، في اتخاذ القرارات، مستفيداً من مجموعة عوامل سياسية طفت فوق سطح التسوية، فشريحة واسعة من الشارع العراقي بكل فئاته وألوانه، تراهن على قدرته في توسيع هامش حركته وتحريرها من القيود الداخلية والإقليمية، فهو محارب إصلاحي مهم طوال سنوات ضد قيود كبيرة ومضحكة يفرضها المتشددون داخل مجلس النواب العراقي وخارجه.
وفي هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق، فهو بأمس الحاجة إلى خارطة طريق متعددة الأبعاد للخروج من أزماته، فأسلوب التهديد والوعيد لا يعالج أزمات عميقة في جسم النظام السياسي العراقي، وإنما هي أدوات قد تكون قانونية لكسب الوقت أو كسب مرحلي ليس إلا، فالجهة التي تهدد وتتوعد الوزارة بالمساءلة والاستجواب وقد تصل إلى مستوى الإقالة، هي صاحبة المناصب والامتيازات فيها، وهي أيضًا ذات الجهة التي تدير وزارتها عبر مكاتبها الاقتصادية.
عملياً.. يرتفع منسوب القلق العراقي على مستقبل الحكومة، وفي هذه المرحلة لا المجتمع ولا الأحزاب السياسية ولا النُخب مستعدة لأن تدخل في مرحلة فراغ سياسي قد تحدث نتيجة إسقاط الحكومة وصعوبة اختيار البديل ان تكن مستحيلة، فمن أجل رفعة العراق وازدهاره، على العراقيين أن يقفوا إلى جانب المحارب الإصلاحي عادل عبد المهدي،الذي استطاع من خلال سياساته العقلانية تجنيب العراق بالدخول في آتون الصراع الأمريكي- الإيراني، الذي بدأ يشهد انفراج نسبي، وبحسن موقفه الوطني في الابتعاد عن استقطاب في الصراع الأمريكي – الايراني يشعر عادل عبدالمهدي بقوة موقفه لأنه يدرك بشكل عميق أن هذا الصراع لابد أن ينتهي على طاولة المفاوضات، وأن لا يكون العراق هو الخاسر من ذلك الصراع، فالعراق في عهده يتمتع بعلاقات جيدة مع كل من واشنطن وطهران. لذلك نؤكد مجددا على جميع القوى السياسية العراقية أن تقف إلى جانب عادل عبدالمهدي لكي يقطف العراق ثمار سياساته العقلانية في الداخل والخارج.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية