يمتد تاريخ علاقة حزب العمال الكردستاني مع النظام السوري إلى بداية ثمانينات القرن المنصرم؛ أي إلى أيام حكم حافظ الأسد الذي كان يستعد وقتها لامتلاك دور إقليمي، يتجاوز ذاك الذي كان معهوداً بالنسبة إلى سوريا في تاريخها الحديث والمعاصر. فبعد دخوله إلى لبنان بضوء أخضر أمريكي – إسرائيلي، وبحجة وضع حد للحرب الأهلية التي كانت قد اندلعت في ربيع 1975، تمكّن النظام الأسدي من التغلغل في الحياة السياسية الداخلية، والبنية المجتمعية في لبنان؛ وأصبح مرجعية قوى لبنانية كثيرة، والداعم لها في سعيها للحصول على موقع ما في سياسة ودولة بلادها، وشبكة المنافع المادية.
وجاء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 الذي أسفر عن إخراج منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات من لبنان؛ الأمر الذي أعطى النظام السوري فرصة جديدة للتحكّم بالورقة الفلسطينية عن طريق خلق تنظيمات فلسطينية موازية، أو الهيمنة على تلك التي كانت تلتقي مع النظام المعني على الشعارات والمزاودات والمنافع السلطوية.
في هذه الأجواء اكتشف النظام المعني أهمية حزب العمال الكردستاني من أجل التحكّم بالورقة الكردية أيضاً إلى جانب الأوراق الأخرى (اللبنانية والفلسطينية والعراقية). فهذا الحزب كان قد دخل إلى الساحة السورية، ومن ثم اللبنانية من خلال زعيمه عبد الله أوجلان ومجموعة من قيادات الصف الأول. وبدأ نشاطه في لبنان بالعمل مع المنظمات الفلسطينية، لا سيما اليسارية منها؛ ولكن بعد الاجتياح، أصطف بصورة نهائية إلى جانب النظام عبر توثيق العلاقة مع أجهزته الأمنية. ولم يكتف حزب العمال بذلك فحسب، بل استطاع بناء العلاقات مع النظام الإيراني أيضاً، عبر الأجهزة الأمنية السورية، وربما من خلال بعض الأطراف الكردية في كردستان العراق.
ومع الوقت، توثقت العلاقات بين حزب العمال والأجهزة الأمنية السورية التي سمحت للحزب المذكور بالتحرك شبه العلني في المناطق الكردية، ليروج لأيديولوجيته وأهدافه، ويضعف الأحزاب الكردية السورية التي كانت تعمل من أجل رفع الظلم عن الكرد السوريين، وتأمين حقوقهم القومية المشروعة. ولم يقتصر الدعم على ذلك فحسب، بل أُنشئت للحزب المعني معسكرات التدريب والإعداد؛ وتم تزويده بالسلاح، وسُمح له بتجنيد الكرد السوريين؛ وذلك من أجل التلويح بالورقة الكردية في وجه تركيا ضمن سياق سعي النظام المعني لتثبيت دوره الإقليمي، ولم يكن كل ذلك بعيداً عن التفاهم والتنسيق مع حليفه الإيراني.
وهكذا باتت تركيا في منظور أنصار حزب العمال هي العدو الألد لكرد سوريا، بينما أصبح النظام السوري حليفهم وراعيهم، وموجههم، وهو النظام نفسه الذي كان يمارس ضد الكرد السوريين سياسة اضطهادية مزدوجة، تجسّدت في حرمانهم من أبسط الحقوق المشروعة، وتطبيق جملة من المشاريع التمييزية العنصرية ضدهم. هذا بالإضافة إلى تهميش مناطقهم، وتركها عرضة للنهب والسلب من قبل الأجهزة الأمنية بفروعها المتعددة، وهي الأجهزة التي كانت تتدخل في كل شيء، بدءاً من موافقات التوظيف، مروراً بمنح رخص البناء والمشاريع الاقتصادية الخاصة، وصولاً إلى التشارك في المواسم والسوق السوداء بمختلف اختصاصاتها، وفرض الأتاوات.
لقد أدخل حزب العمال كرد سوريا في معركة عبثية غير متكافئة مع تركيا، ولم يأخذ بعين الاعتبار الحدود البرية الطويلة، ولا الحجم البشري المحدود، والإمكانيات المتواضعة لكرد سوريا، وذلك قياساً إلى حجم وامكانيات تركيا، كما لم يأخذ مصالح الكرد على طرفي الحدود بعين الاعتبار. وهكذا تمكن الحزب المعني، وبالتنسيق مع الأجهزة الأمنية السورية من دفع الآلاف من خيرة الشباب الكرد السوريين نحو معارك انتحارية محسومة النتائج؛ إلا أنها استُغلت إعلامياً من قبل الحزب المذكور الذي تفاخر، ويتفاخر، بأنه حزب الشهداء، وذلك على حساب دماء الشباب من كرد سوريا وحسن نواياهم، وقد اتخذ من هذا الأمر وسيلة لربط المزيد من الناس بمشاريعه، ومغامراته المثيرة للتساؤلات الكثيرة.
وما يميّز هذا الحزب تحديداً عن جميع الأحزاب الكردية الأخرى هو براغماتيته الفاقعة في السياسة والأيديولوجيا معاً، فرغم التزامه العلني بالماركسية في صيغتها الستالينية، بنى علاقاته الأمنية مع النظامين السوري والإيراني، منذ 1980 كما أسلفنا، وتمكن في الوقت ذاته من إقامة العلاقات مع نظام صدام حسين نفسه في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وقد كلفه النظام المعني ببعض المهام، وسلمه العديد من المناطق في كردستان العراق، وقام عناصره بتنفيذ العديد من العمليات الإرهابية التي استهدفت الفلاحين الكرد والبيشمركه.
ومع انطلاقة الثورة، دخل هذا الحزب الساحة السورية منذ صيف عام 2011 بالاتفاق مع النظامين السوري والإيراني تحت اسم “حزب الاتحاد الديمقراطي”، ليتولى أمر ضبط المناطق الكردية، ويحول دون تفاعلها واندماجها بصورة كلية مع الثورة السورية.
ودخل الحزب المعني بناء على اتفاقية التسليم والاستلام إلى المناطق المعنية، وبدا بفرض سلطته باسلوب الصدمة، إذ ارتكب جملة من الجرائم البشعة والعمليات الإرهابية الوحشية بحق الكرد في كل من قامشلي وعامودا وكوباني وعفرين، بهدف ترويع الجميع، خاصة في ظل واقع ضعف الأحزاب الكردية السورية التي لم تكن تمتلك أية قوة عسكرية أصلاً، وكانت منشغلة بخلافاتها البينية والحزبية. وسرعان ما بدأ هذا الحزب يتصرف مع المجتمع المحلي من موقع سلطوي كامل الصلاحيات، ويعلن عن كيانات سياسية إدارية، لم تستند إلى أية شرعية محلية، أو وطنية، أو إقليمية ودولية.
فقد أعلن عن تشكيل كانتونات، ومن ثم إدارة ذاتية؛ وفرض التجنيد الإجباري، وتحكّم بالعملية التعليمية، وألزم الناس بمناهجه الدراسية التي تفتقر إلى أبسط المعايير التربوية والعلمية، وكلّف بالتدريس في المدارس والكليات أناساً لا يمتلكون أية مؤهلات تربوية أو قدرات معرفية أكاديمية. هذا فضلاً عن عدم وجود أي اعتراف وطني أو دولي بالشهادات التي يحصل عليها الطلبة. فعل هذا الحزب كل ذلك في مناطق كان التعليم يعتبر بالنسبة إلى سكانها الهمّ الأساسي، والبند الأهم في أولويات كل أسرة، وكان طلبة هذه المناطق من المتميزين على المستوى الوطني.
إلى جانب التجنيد والتعليم، أرهق الحزب المعني القطاعات الأخرى بالضرائب والتدخلات، ونشأت مجموعة من الفاسدين من تجار الحروب، هؤلاء الذين استغلوا الظروف، ليحققوا ثراء فاحشاً على حساب معاناة الناس وعدم قدرتهم على النقد والمطالبة بالمساءلة والمحاسبة والرفض، والتعبير عن الرأي بحرّية.
وبالتوافق مع نهجه البراغماتي الشمولي المستمر، عرض الحزب المعني خدماته على الأمريكيين والروس في الوقت ذاته، ومن دون أن يقطع علاقاته مع النظام. وحتى مع النظام الإيراني من خلال قيادته الفعلية في قنديل.
وكل ذلك أدى إلى هجرة نحو مليون كردي من مناطقهم، معظمهم من الشباب، الذين خرجوا تحاشياً للتجنيد الإجباري “السفر برلكي”، الذي يقدّمهم غالباً قرابين رخيصة في معارك عبثية لا ناقة لهم فيها ولا جمل؛ كما يهاجرون بهدف الحصول على تعليم لائق، يضمن لهم ولأسرهم مستقبلاً أفضل.
وفي يومنا الراهن، يعيش حزب الاتحاد الديمقراطي جملة أزمات عميقة تتمثل في أزمة الهوية، وأزمة القيادة، وأزمة تعددية الولاءات والمهام. فقواته العسكرية تعمل بشكل وثيق مع القوات الأمريكية في إطار التحالف الدولي، ولكن قياداته السياسية والأمنية على علاقات مستمرة مع النظامين السوري والإيراني. وهو حزب ماركسي ستاليني كما أسلفنا، ويلتزم بأوامر نظام ولي الفقيه؛ ويدخل في الوقت عينه في تحالف أمني عسكري مع زعيمة الرأسمالية العالمية.
وفي إطار الحديث عن المنطقة الآمنة في شرقي الفرات، وذلك بناء على التوافقات الأخيرة بشأنها بين الولايات المتحدة الأميركية وتركيا، تبرز مجددا قضية مصير هذا الحزب، ودوره مستقبلاً في الحياة السياسية السورية، سواء على الصعيد السوري الكردي، أم السوري الوطني العام.
وهذه قضية إشكالية معقدة، تستوجب حلاً متأنياً من خارج الصندوق إذا صح التعبير.
فهناك أوساط شعبية لا يمكن إهمالها بين الكرد السوريين ممن يؤيدون سياسات هذا الحزب، ويعملون تحت إشرافه، لأسباب كثيرة منها الاعتقاد بصوابية نهجه والأهداف التي يعمل في سبيلها؛ ومنها الجهل وعدم المعرفة بالأجندات الفعلية التي يعمل من أجلها؛ ومنها ما تستند إلى المصلحة؛ ومنها التقليد؛ وغير ذلك من الأسباب.
ولكن في الوقت ذاته، يبقى القرار الفعلي للحزب المعني خارج نطاق إرادة وتأثير الكرد السوريين، وإنما يُفرض من جانب قيادة حزب العمال التي لها حساباتها الخاصة، وهي تستخدم عدالة القضية الكردية السورية لبلوغ مكاسب، وتنفيذ مهام لا تخدم المصلحة الكردية السورية بشيء. فحزب العمال ساحته الأساسية تركيا، ومشكلته هي مع الدولة التركية.
وبناء على ما تقدم، نرى أن معالجة موضوع هذا الحزب، كما نرى، يستوجب حلاً مركباً، يتكون من خطوتين: الأولى تتمثل في ضرورة تحقيق عملية فك ارتباط بين “حزب الاتحاد الديمقراطي” و”حزب العمال الكردستاني”، ليتحول الأول، إذا أراد بطبيعة الحال، إلى حزب كردي سوري، يقوده الكرد السوريون بالفعل، وبموجب برنامج وطني سوري، يأخذ الخصوصية الكردية السورية بعين الاعتبار.
أما الخطوة الثانية، فهي تكون بالعودة ثانية إلى المفاوضات بين “حزب العمال الكردستاني” والحكومة التركية من أجل الوصول إلى حل سلمي عادل للقضية الكردية في تركيا، الأمر الذي سيكون في مصلحة تركيا، دولة وشعباً، وفي مصلحة الكرد، سواء في تركيا أم في العراق وسوريا؛ وسيكون في مصلحة أمن واستقرار المنطقة بأسرها.
أما أن تستمر الحكومة التركية في تجاهلها، بل وإنكارها لواقع وجود مشكلة كردية في تركيا تنتظر الحل؛ وتعمل على إلغائها عبر الصاق تهمة الإرهاب بكل من يطالب، أو يعمل من أجل الوصول إلى حل عادل، فهاذ أمر لن يعالج الوضع المعقد أصلاً، بل يزيده تعقيداً على المستويين الأفقي والعمودي.
قضايا المنطقة، رغم كل التدخلات والتعقيدات يمكن إيجاد الحلول لها على قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق والمصالح، شرط توفر الرغبة والإرادة، والتعامل مع المسائل الإشكالية بقلب وعقل مفتوحين، وقبل هذا وذاك الاستعداد الكامل لتقبّل الآخر المختلف، وتفهم المصالح المشتركة.
القدس العربي