في نهاية الأسبوع المنصرم، خرج المواطنون اللبنانيون إلى الشوارع للاحتجاج على الأزمة الماليّة الحادّة التي تعاني منها البلاد، والتي اتّسمت بأحد أعلى معدّلات الدَيْن في العالَم، وبأزمة جديدة متعلّقة بالعملة، وبمخاوف من أن يتسبب [الإعلان عن] إضراب بإغلاق محطات الوقود إلى أجلٍ غير مسمّى. ويعتقد الكثيرون أن الفساد والطائفية العميقي الجذور أوصلاهم إلى هذه الفوضى، وقد يعقّدان الآن الجهود لإخراجهم منها.
وبناءً على هذه الخلفية، تتزايد الانتقادات الموجَّهة إلى «حزب الله» – المنظّمة المصنَّفة كإرهابيّة على نطاقٍ واسع، وفي الوقت نفسه أقوى حزب في الحكومة اللبنانية وحركة طائفية عدائية تُبقي أنشطتها وأسلحتها خارج سيطرة الحكومة. وكما أشارت وزارة الخزانة الأمريكية مؤخراً، أدّت التطورات التي حدثت خلال الأسابيع القليلة الماضية إلى تسليط الضوء على المستوى الذي تصل إليه أعمال هذه الجماعة في “منح الأولوية لمصالحها، ومصالح راعيتها الرئيسية، إيران، على حساب رفاهية المواطنين اللبنانيين والاقتصاد اللبناني”.
اغتيال سياسيين لبنانيين
في 16 أيلول/سبتمبر، نشرت “المحكمة الدولية الخاصة بلبنان” تفاصيل حول لائحة اتهام جديدة مُتَهم بها سليم عيّاش بمساعدة «حزب الله» على تنفيذ مؤامرات اغتيال ضد سياسيين لبنانيين في الفترة 2004-2005. وربطت المحكمة هذه المؤامرات بتحقيقها الأساسي في اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005.
وعلى وجه التحديد، تَعتبر لائحة الاتهام الجديدة أن عملاء «حزب الله» مسؤولون عن محاولة قتل حليف الحريري النائب مروان حمادة في تشرين الأول/أكتوبر 2004، ومقتل حارسه الشخصي غازي أبو كروم؛ واغتيال خالد مورا في تموز/يوليو 2005، الذي كان يعمل سائقاً لدى وزير الدفاع الياس المر – الهدف الرئيس للهجوم؛ ومقتل رئيس “الحزب الشيوعي اللبناني” السابق جورج حاوي في تشرين الأول/أكتوبر 2005. وبسبب دوره في هذه المؤامرات، اتُّهم عيّاش بالقتل وارتكاب أعمال إرهابية. ووفقاً للمحكمة، “في جميع الأوقات المرتبطة بقرار الاتهام، كان [عيّاش] مناصراً لـ «حزب الله»”، وهي علاقة شملت ارتباطات مباشرة مع قائد العمليات الراحل مصطفى بدر الدين.
تعريض المدنيين للخطر بسبب مشروع «حزب الله» المتعلق بالصواريخ
في 29 آب/أغسطس، كشفت إسرائيل أن عملاء إيرانيين كانوا يعملون على تزويد «حزب الله» بالمعدات والدراية اللازمة لبناء الصواريخ الدقيقة الخاصة به وإعادة تحديث الصواريخ القديمة في المنشآت اللبنانية. ولم تشكّل هذه المعطيات المكشوفة مفاجأةً نظراً إلى الكشف في أيلول/سبتمبر 2018 عن ثلاث من هذه المنشآت تحت الأرض، بنتها الجماعة في أحياء حضرية من بيروت من دون إدراك الخطر الذي تسببه للحكومة اللبنانية والسكّان المحليين.
وجاء إعلان شهر آب/أغسطس بعد أيام فقط من قيام إسرائيل، وفقاً لبعض التقارير، بنشر طائرات بدون طيار فوق بيروت لتدمير معدات متعلّقة بالصواريخ كانت إيران قد أرسلتها إلى هناك. وكانت الرسالة واضحة ومفادها: أن “جيش الدفاع الإسرائيلي” لن يسمح لجماعة إرهابية باستخدام بلدٍ مجاور كملاذٍ آمن لتطوير أسلحة قادرة على تغيير اللعبة؛ وإذا لم تتعامل الدولة اللبنانية مع المشكلة، فسيتولّى “الجيش الإسرائيلي” القيام بذلك.
وقد وقعت هذه الضربات على خلفية تجدُّد تهديدات «حزب الله». ففي مقابلةٍ أُجريَت في تموز/يوليو، شدّد الأمين العام للحزب السيّد حسن نصر الله على هشاشة المراكز السكنية والبنية التحتية الأساسية في إسرائيل. ومن خلال عَرْضه خرائط تُظهِر مدى نشر صواريخ «حزب الله»، أخبر قناة “المنار” التلفزيونية التابعة للحزب بأن “باستطاعة هذه الصواريخ استهداف تلك المنطقة بأكملها”، وأشار إلى مدينة إيلات ومحيطها في جنوب إسرائيل. وخلُص إلى القول: “سنرى من سيُعيد الآخر إلى العصر الحجري”. وتتضح الطبيعة الفظيعة لهذا الخطاب عندما يتذكّر المرء ما الذي يمثّله نصر الله: قائد ميليشيا لا يشغل أي منصب في الحكومة اللبنانية، سواء كان منتخباً أم لا، تلك الميليشيا التي تهدد باستمرار الدولة المجاورة وتتخذ قراراتٍ تقضي على حياة المواطنين الإسرائيليين واللبنانيين على حدٍ سواء.
مهاجمة قوات الأمم المتحدة
في اليوم نفسه الذي كشفت فيه إسرائيل دور إيران في البرنامج الصاروخي لـ «حزب الله»، صوّت مجلس الأمن الدولي بالإجماع على تمديد ولاية “قوة الأمم المتحدة الموقّتة في لبنان”، أي هيئة حفظ السلام التي تشمل مهمتها مساعدة الحكومة المنتخَبة على إعادة “السلطة الفعّالة” في الجنوب. وأعاد المجلس اتخاذ هذا القرار وسط أدلّة وافرة مفادها أن «حزب الله» يحتفظ بمناطق عسكرية مستقلة في بقعٍ شاسعة من البلاد وقام مراراً وتكراراً بتخويف الطاقم العسكري والمدني التابع “للأمم المتحدة” وإعاقته. فبالإضافة إلى الاعتداء على موكبٍ تابعٍ لقوة “اليونيفيل” في العام الماضي، يستمر «حزب الله» في منع هذه القوة من الدخول إلى مواقع على طول الحدود الجنوبية، على الرغم من اكتشاف قيام الحزب في وقتٍ سابقٍ من هذا العام ببناء مجموعة من الأنفاق الهجومية تدخل الأراضي الإسرائيلية.
ومن خلال تجديد ولاية “اليونيفيل”، قام مجلس الأمن بـ “حثّ جميع الأطراف على ضمان الاحترام التام لحرية حركة ‘اليونيفيل’ ودخول القوة إلى ‘الخط الأزرق’ بكافة أجزائه، وضمان عدم إعاقة هذه الحرّيّة”. ووجّهت “الأمم المتحدة” بشكلٍ خاص نداءً إلى الحكومة اللبنانية، طالبةً منها “تسهيل دخول البعثة بما يتماشى مع مع ‘القرار 1701 (2006) ‘ “.
تقويض الاستقرار المالي
في 29 آب/أغسطس، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية، عن اتخاذها إجراءين سلّطا الضوء على حجم الأنشطة المالية غير المشروعة لـ «حزب الله» في لبنان. وكشف إحدى هذين الإجراءين عن محمد سرور، عميل مالي مرتبط بـ «حزب الله» يتّخذ من بيروت مقرّاً له “كمسؤول عن تحويل عشرات ملايين الدولارات سنوياً” من «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني إلى الجناح العسكري لحركة «حماس» الفلسطينية. واستهدف الإجراء الثاني “جمّال ترست بنك” – مؤسسة لبنانية متوسطة الحجم متّهمة بتسهيل الأنشطة الماليّة لـ «حزب الله» بمعرفة مسبقة.
وقبل بضعة أيامٍ من اتخاذ وزارة الخزانة خطوتها، خفّضت “وكالة فيتش” التصنيف الافتراضي لإصدار العملة على المدى الطويل في لبنان، بينما أعادت وكالة “ستاندارد آند بورز” إصدار تصنيفاتها المنخفضة للبلاد وأشارت إلى أن التوقعات ما زالت سلبيّة. ويصبح دور «حزب الله» في تعزيز هذه المشاكل أكثر إثارة للسخط عندما يتذكّر المرء ما خلص إليه “صندوق النقد الدولي” في تقريره الصادر في كانون الثاني/يناير 2017 حول لبنان، حيث ذكر: “أن النظام المصرفي قد أثبت حتى الآن أنه قادر على الصمود في وجه الصدمات المحلّيّة والاضطرابات الإقليمية، إلّا أن التحقق من الصدمات الحادّة يمكن أن تكشف عن نقاط الضعف”. وأدت أعمال «حزب الله» منذ ذلك الحين إلى زيادة تعرض البلاد للصدمات بشكلٍ هائل، سواء من خلال التسبب بعقوبات دولية شديدة، أو الحث على عمل عسكري إسرائيلي، أو تخويف المستثمرين.
ويمكن استخلاص الدروس بشكلٍ خاص من قضية “جمّال ترست بنك”. فوفقاً لوزارة الخزانة الأمريكية، قدم المصرف خدمات مالية إلى المجلس التنفيذي الخاص بـ «حزب الله»، و”مؤسسة الشهيد” التابعة له، وجمعية مؤسسة “القرض الحسن” المالية الخاصة به. واشترك موظّفو المصرف بمعرفة مسبقة في ممارسات غير مشروعة لإخفاء هذه الأنشطة. فعلى سبيل المثال، تم اتهام عضو البرلمان اللبناني من «حزب الله» أمين شرّي بتنسيق النشاط المالي الخاص بالجماعة مع إدارة “جمّال ترست بنك”. وعند تصنيف شرّي نفسه على لائحة الإرهاب الأمريكية قبل عدة أسابيع، أشارت وزارة الخزانة الأمريكية إلى أنه “هدّد المسؤولين في المصرف اللبناني وأفراد عائلاتهم” بعد أن جمّدت إحدى المؤسسات حسابات عضو مصنَّف على لائحة الإرهاب من «حزب الله». “وتُظهِر” ومثل هذه الجهود “الخطوات المتشددة” التي كان شرّي على استعداد لاتخاذها من أجل تعزيز أجندة «حزب الله» العنيفة، حتى “على حساب قطاعٍ شرعي يشكّل ركيزة الاقتصاد اللبناني”. ووفقاً لأحد كبار المسؤوليين الأمريكيين، طالت هذه الممارسات القسريّة حتى المصرف المركزي [اللبناني].
ووفقاً لبعض التقارير، يعود “التنسيق العميق” بين «حزب الله» و”جمّال ترست بنك” إلى “منتصف العقد الأوّل من القرن الحالي على الأقل”، حيث تصِفُ وزارة الخزانة الأمريكية بالتفصيل كيف خرقت مخططاتهما المشتركة كلّاً من المبادئ الأساسية لمكافحة تبييض الأموال والإدراجات الأمريكية [على لائحة الإرهاب]. فعلى سبيل المثال، “عند فتح ‘حسابات شخصية’ مزعومة في ‘جمّال ترست بنك’، عرّف المسؤولون في مؤسسة ‘القرض الحسن’ بوضوح بأنفسهم… على أنهم من كبار أعضاء الجماعة الإرهابية. وعندئذ كان مصرف ‘جمّال ترست بنك’ يقوم بتسهيل استخدام هذه الحسابات لممارسة العمليات التجارية بالنيابة عن مؤسسة ‘القرض الحسن’ “.
لحظة من القرار في بيروت
يُعرف ماكس ويبر بقوله الشهير بأن احتكار الاستخدام المشروع للقوة هو أساس الدولة الحديثة. والسؤال الذي يمكن طرحه بالنسبة إلى لبنان هو إذا ما كانت حكومته مستعدة لتأكيد تلك الصلاحية وقادرة على ذلك، لأن هذا سيعني منع «حزب الله» من تخزين الأسلحة العسكرية، أو تهديد الدول المجاورة، أو الانخراط في أنشطة ماليّة غير مشروعة مع الإفلات من العقاب. ويقول البعض أن «حزب الله» اخترق الحكومة بشكلٍ كبير لدرجة أن الكيانيْن أصبحا كياناً واحداً والكيان نفسه. ومع ذلك، فقد دعم كل من مجلس الأمن الدولي وواشنطن وإسرائيل بشكلٍ ملحوظ إجراءاتهم الأخيرة، بتوجيه نداءات لبيروت بالتدخل، مشيرين إلى وجود خطوات ملموسة لا يزال بإمكان الحكومة اللبنانية اتخاذها لإعادة تأكيد سيطرتها على الأمن القومي والمالي في لبنان.
وبالفعل، يجب على المسؤولين اللبنانيين اتخاذ خطوات في الوقت الحالي لحماية النظام المصرفي من سوء المعاملة ومنع «حزب الله» من استخدام البلاد كمنصة عسكرية ضد إسرائيل. إن الفشل في اتخاذ خطوات حالياً سيمكّن الحزب من جعل لبنان رهينة لمصالحه الضيقة. وهذه لحظة حاسمة بالنسبة لبيروت، لأن عواقب التقاعس عن [اتخاذ خطوات إيجابية] – أي الحرب أو الاقتصاد المنهار أو كليهما – ستكون مدمرة.
معهد واشنطن