شهد العالم في القرن الأخير تحولات عدة، ما بين ظهور قوى عظمى، واختفاء أخرى، وتكوّن تكتلات سياسية، وتفكك أخرى، لكنها تحولات تتسم بالبطء الشديد لأنها تغيرات تجري على مستويات متعددة منها، الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، ورغم مرور البشرية في القرن الأخير بحربين عالميتين، أسهمتا بشكل كبير في الإسراع بوتيرة التغيرات السياسية والديموغرافية والاقتصادية في العالم، لكنها لم تكن إلا بداية لصياغة عالم جديد. لم تعد الحروب وسيلة التغيير الناجعة، ولا أصبحت الكلمة الأخيرة في الصراعات مرهونة بقوة السلاح، بل أصبحت التكتلات السياسية والاقتصادية هي عامل الحسم في الصراعات. من هذا المنطلق، فإن الدول الساعية إلى تغيير موازين القوى تسلك سبيل التغيير الدبلوماسي والاقتصادي، وربما تغلفها بإثارة بعض التوترات العسكرية في هذه المنطقة، أو تلك من العالم.
وتميل كفة السيطرة اليوم لمصلحة الولايات المتحدة ودول الغرب التابعة لها، التي لاتزال تبني على الأساس الذي حققته في الحرب العالمية الثانية، وهو إنجاز كان للاتحاد السوفييتي السابق دور بارز فيه، لكن سقوط هذا الاتحاد عام 1991، أخرجه من معادلة القوة الدولية، وحاولت وريثته روسيا لبس عباءته الواسعة المثقلة بأدران النظام الاشتراكي المهلهل، لكن الدول الغربية – فضلاً عن الانهيار الاقتصادي- أبت أن تسمح لروسيا بلعب دور الرجل القوي الذي ورث التركة السوفييتية، وأصرت على أن تكون تابعة لها وليست ندّاً في رسم السياسة العالمية. الأمر الذي دفع روسيا للتوجه نحو الصين. وكانت العلاقات الصينية السوفييتية تعيش أسوأ حالاتها، خاصة في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ومع مجيء ميخائيل غورباتشوف إلى الكرملين عام 1985، شهدت هذه العلاقات تقدماً لم يتوقف بعد انهيار النظام السوفييتي واختفاء غورباتشوف، بل استمر وتسارع في عهد خلفه الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسن، واكتسبت مضامين كثيرة على مستويات عدة. ولعل من أهم علامات ذلك التطور، الزيارتين اللتين قام بهما يلتسين لبكين في ديسمبر/كانون الأول 1992، ثم في إبريل/نيسان من العام 1996.
وتعتبر الزيارة الثانية بوجه خاص، البداية التي سجلت إعادة الميلاد الحقيقي للعلاقات الراسخة بين روسيا والصين، ففي هذه الزيارة اتفق يلتسن مع المسؤولين الصينيين على مواجهة الهيمنة الأمريكية في العالم، واستمر منذ ذلك الوقت مسار التطور الناجح في العلاقات الروسية الصينية. ففي عام 2001 ارتأت هاتان الدولتان تشكيل تحالف أوسع من الدول الناشئة في العالم الثالث، بهدف تنسيق السياسات الدبلوماسية والاقتصادية، وبما يفضي إلى سحب البساط من تحت أقدام الدول الغربية بشكل هادئ، فتم تشكيل مجموعة «بريكس» التي تضم إضافة إلى روسيا والصين، كلاً من الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل. وقد استضافت روسيا القمة السابعة لهذه المجموعة في عاصمة جمهورية باشكيريا الروسية «أوفا» في 8 يوليو/تموز 2015، وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ختام أعمال تلك القمة: «إن عملنا ارتكز بشكل أساسيّ على تكثيف التعاون متعدد الجوانب في إطار بريكس. وستواصل مجموعتنا المساهمة بقسطها في ضمان الأمن الدولي والنمو العالمي، وفي حل القضايا المعاصرة الرئيسية، والحفاظ على الدور المحوري للأمم المتحدة، والالتزام بأحكام القانون الدولي، واحترام مبادئ السيادة، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى». وكان من أهداف تلك القمة، وضع استراتيجية جديدة للشراكة الاقتصادية بين الدول الأعضاء، وتجنيد أعضاء جدد، ووضع خطط لإصلاح النظام المالي الدولي.
وكان تجمع «بريكس» أطلق خلال قمته في البرازيل عام 2014 بنكاً تحت مسمى «بنك التنمية الجديد»، الذي سيعمل إلى جانب البنك الذي أطلقته الصين تحت مسمى «البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية»، كبديل واضح ومنافس قوي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين يهيمن عليهما الغرب. وتشير معظم الدراسات والاحصاءات الاقتصادية في العالم إلى ارتفاع نصيب «بريكس» في الناتج الاقتصادي العالمي، حيث وصل إلى نحو 16.5 تريليون دولار أي ما يُعادل نحو 18 في المئة من الناتج الاقتصادي العالمي خلال 2014. كما وصلت احتياطات العملة المشتركة للتكتل نحو 4 تريليونات دولار، بما يُعادل 75 في المئة من احتياطات العملة عالمياً. وبلغ حجم الرساميل الخارجة من دول البريكس في السنوات العشر الماضية 3.5 تريليون دولار، نصفها في السنوات الثلاث الماضية، وفق ما أعلنه سكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف، في الاجتماع الأخير للمسؤولين الأمنيين بدول “البريكس” في موسكو.
إن نجاح دول «بريكس» في اتباع نهج سياسي واقتصادي واحد رغم الضغوط الغربية التي مورست على مختلف أعضائها، هو أمر يستحق الاهتمام والدراسة، خاصة إذا كان يشير إلى أن دول ال«بريكس» مؤمنة بعدالة القضية التي تناضل من أجلها، وهي لن تتوقف حتى تعيد توازن القوى المفقود في عالم اليوم.
محمد خليفة
صحيفة الخليج