خيارات طهران إن قرر ترمب إخلالها بالاتفاق النووي

خيارات طهران إن قرر ترمب إخلالها بالاتفاق النووي

رغم أن دونالد ترمب تعهد بتمزيق الاتفاق النووي معإيران إن وصل إلى سدة الحكم بالبيت الأبيض؛ فإن الظروف السياسية الدولية وتعدد مراكز القرار في واشنطن أجبراه على تأخير تنفيذ قراره وتغيير تكتيكاته في اللعبة، فبدل أن يقوم بتمزيق الاتفاق -أو الخروج منه من جانب واحد- يحاول اليوم دفع إيران للخروج منه.

ويمكن القول إن لعبة الشد والإرخاء في قرار ترمب بشأن تأييد التزام إيران بالاتفاق النووي، واللعب على وتر أعصاب المجتمع الدولي عموما وإيران خصوصا؛ أضحت اليوم هي إستراتيجية ترمب لإفشال الاتفاق النووي، وعمليا تمزيقه دون أن يكون هو الذي مزّقه.

وفي المقابل؛ يمكن القول إن الإيرانيين -وهم مسلحون بدبلوماسيين محنكين مثل وزير الخارجية محمد جواد ظريف– يقرؤون خطوات السياسة الأميركية بشكل أوضح، حتى من ترمب نفسه الذي لم يعمل في المجال السياسي قبل فوزه بالرئاسة.

تصعيد وتهدئة
يتساءل العديد من الدبلوماسيين الأجانب في طهرانعن سبب برودة أعصاب المسؤولين الإيرانيين تجاه الحملات اللفظية الحادة عليهم من ترمب، والجواب هو أن الساسة الإيرانيين يرون أن تصرفات ترمب هذه لا تروق للمجتمع الدولي، وبالتالي فهم لا يحتاجون لمواجهته بالمثل لأنه يسهّل لهم عملهم في إظهار ما يعتبرونه مظلومية إيران في العالم.

“يتساءل العديد من الدبلوماسيين الأجانب في طهران عن سبب برودة أعصاب المسؤولين الإيرانيين تجاه الحملات اللفظية الحادة عليهم من ترمب، والجواب هو أن الساسة الإيرانيين يرون أن تصرفات ترمب هذه لا تروق للمجتمع الدولي، وبالتالي فهم لا يحتاجون لمواجهته بالمثل لأنه يسهّل لهم عملهم في إظهار ما يعتبرونه مظلومية إيران في العالم”

ولربما يمكن القول إن أفضل مثال على هذا كان خطاب ترمب الشديد اللهجة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث هدّدكوريا الشمالية بإبادة شعبها ومحوه من الوجود، ثم هدّد إيران ودولا عديدة أعضاء في هذه المنظمة.

ولم يعِ ترمب حينها أن هدف تأسيس الأمم المتحدة هو العمل على تعزيز الأمن والسلام الدولي، وأن زعماء العالم يجب أن يأتوا إلى محافلها كي يتكلموا عن خططهم للمساهمة في تعزيز ذلك، وليس للتهديد بتدمير دول أخرى، وحتى المسؤولون الإيرانيون -الذين يؤمنون بضرورة محو إسرائيل من الوجود- لم يهددوا ولو مرة واحدة بتدمير إسرائيل مباشرة من منبر الأمم المتحدة.

بعد خطاب ترمب هذا؛ وجد الرئيس الإيراني حسن روحاني نفسه في موقف لا يُحسَد عليه، فقد اضطُر إلى أن يغير بعض فقرات خطابه في الأمم المتحدة كي يكون أكثر اعتدالا، لأنه وجد أن ترمب سهّل له الموقف بشكل كبير.

في الواقع؛ لا يخفى على أحد أن المفاوضات النووية بين إيران ومجموعة “5+1” كانت مفاوضات بين إيران والولايات المتحدة حضرتها خمس دول أخرى كشهود ووقعتها الأمم المتحدة كضامن، لأن الخلاف عمليا كان بين طهران وواشنطن، والعقوبات الأميركية كانت سببا في عرقلة أي تعامل اقتصادي مع إيران. ولذلك يمكن القول إن خروج أميركا من الاتفاق النووي بأي شكل يعني نهاية هذا الاتفاق.

ويمكن القول إنجُلّ ما قد تكون إيران حصلت عليه من الاتفاق هو كسر عزلتها الدولية التي كانت مفروضة قبل توقيعه، وإنهاء الإجماع الدولي على فرض عقوبات عليها بسبب برنامجها النووي. وحتى لو واصلت بقية دول “5+1” الالتزامَ بهذا الاتفاق؛ فإن الشركات والمصارف والمؤسسات التجارية التابعة لهذه الدول ستفضل مقاطعة إيران خوفا من العقوبات الأميركية.

وفي هذه الظروف؛ يبقى أمام إيران طريق واحد هو التعامل مع المؤسسات الاقتصادية التي لا تتعامل مع الولايات المتحدة، وفتح خطوط مصرفية للتعامل بالعملات المحلية مع الدول الأخرى، وربما يكون هذا أكثر ما يمكن للاتفاق النووي تحقيقه لإيران.

خيارات طهران
عمليا هناك اليوم خياران لإيران لا ثالث لهما: إما السير على خُطى كوريا الشمالية أو مواصلة الالتزام بالاتفاق النووي. ويبدو أن حكومة روحاني قررت المضي في الطريق الثاني، أملا منها في أن تتغير الظروف، ولكنْ هناك اتجاه إيراني قوي جدا يرى أن المضي في هذا الطريق لا جدوى منه، وأنه يجب على إيران أن تفرض الأمر الواقع على الأميركان لأنهم لا يفهمون إلا لغة القوة.

إن خروج واشنطن من الاتفاق النووي -أو تعليقه بأي شكل- من شأنه تقوية الاتجاه المتشدد في إيران، والذي كان ينادي دوما بأنه لا فائدة من المفاوضات مع أميركا لأنها لا تلتزم بتعهداتها. ويراهن هذا الاتجاه على أن الظروف الدولية والأوضاع الاقتصادية لأميركا لا تسمح لها بدخول حرب مع إيران، معتبرا أن تصعيد التهديدات العسكرية الأميركية زوبعة في فنجان.

“خروج واشنطن من الاتفاق النووي -أو تعليقه بأي شكل- من شأنه تقوية الاتجاه المتشدد في إيران، والذي كان ينادي دوما بأنه لا فائدة من المفاوضات مع أميركا لأنها لا تلتزم بتعهداتها. ويراهن هذا الاتجاه على أن الظروف الدولية والأوضاع الاقتصادية لأميركا لا تسمح لها بدخول حرب مع إيران”

ويعتمد هؤلاء في موقفهم على الوجود الإيراني في سورياوالعراق ولبنان وأفغانستان، ويقولون إن الأجهزة الأمنية والعسكرية الأميركية تعلم جيدا أن دخول بلادهم في أي حرب مع إيران ليس بالسهولة التي يتصورها ترمب، وأن إيران ستشعل كل المنطقة بصواريخها وحلفائها، وعندها يُصبح حلفاءُ واشنطن -خاصة إسرائيل والسعودية– والقوات الأميركية في المنطقة أهدافا للرد الإيراني على أي هجوم أميركي.

ولا يعتمد هؤلاء على الصواريخ البالستية الإيرانية، بل على عشرات الآلاف من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى التي يصعب على الدفاعات الصاروخية ردعها، وهي منتشرة في كل أنحاء المنطقة.

وتعتبر التجارب الإيرانية للصواريخ البالستية أو تحدي حركة القطع البحرية الأميركية نوعا من التحدي وإثارة غضب الأميركيين، لأنه طبقا لـ”روح الاتفاق النووي” -كما يسميه الأميركيون- فإن الإدارة الأميركية وعدت الإيرانيين بوقف تنفيذ جميع العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة على إيران، والعمل على إلغاء عقوبات الكونغرس، ووقف أي ضغوط على الشركات والمؤسسات المالية المتعاونة مع إيران.

وذلك شريطة أن تقوم طهران -في المقابل- بالتعاون مع واشنطن في حل مواضيع خلافية بينهما بالمنطقة، وأن توقف التصعيد عبر تجاربها الصاروخية البالستية أو تهديد القوات الأميركية في المنطقة.

وسبب عدم إدراج بنود “روح الاتفاق النووي” في نص الاتفاق هو أن الوفد الأميركي المفاوض ادعى أن حكومته لا يمكنها رفع عقوبات فرضها الكونغرس، بل يمكنها فقط تعليق تنفيذ هذه العقوبات. وفي المقابل؛ أعطى الوفدُ الإيراني وعودا شفهية فقط، معتبرا أن المفاوضات عُقدت لحل الخلاف النووي فحسب، ويجب ألا تُبحث أمور أخرى فيها لأن من شأن ذلك عرقلة الوصول إلى اتفاق.

جدل الالتزام
لم يجفّ حبر التوقيع على الاتفاق النووي؛ حتى قامت الولايات المتحدة بفرض عقوبات على الأشخاص الذين يريدون السفر إلى إيران، مما حدّ من إمكانية سفر عدد كبير من مسؤولي الشركات الأوروبية لعقد اتفاقيات تجارية مع إيران، وواصلت ضغوطها على الشركات والبنوك الدولية لثنيها عن التعامل مع إيران خاصة بالدولار الأميركي.

كما استمرت واشنطن في مطالبتها الشركات العالمية بأن تحصل على موافقة وزارة الخزانة الأميركية قبل أي تعامل مع إيران وإلا فرضت عليها عقوبات مالية. وعليه فإن أغلبية الاتفاقيات التجارية التي تم توقيعها بين إيران والدول الأخرى -خاصة الأوروبية منها- بقيت عمليا حبرا على ورق.

“يعلم الإيرانيون جيدا أن ترمب سيرفض الإقرار بالتزام إيران بالاتفاق النووي عاجلا أو آجلا، ليرمي الكرة في ملعب الكونغرس الأميركي أو يخرج من الاتفاق النووي كليا، ويعلمون جيدا أنه لا حيلة أمامهم إلا أن يدفعوا الأميركيين للخروج أو عرقلة هذا الاتفاق الذي لا يقومون بتنفيذه عمليا”

وبما أن الولايات المتحدة تؤكد التزامها بنص الاتفاق النووي، فإن الإيرانيين أيضا يؤكدون التزامهم به فقط، ولكن المشكلة تكمن في أن حكومة روحاني تقول إنها قامت بتنفيذ معظم التزاماتها، وإنها فعلت ذلك حتى قبل المواعيد المحددة له وفقا لهذا الاتفاق لكي تعكس حسن نيتها بشأنه.

وتتهم طهران الجانب الأميركي بأنه ماطل في تنفيذ معظم البنود حتى بعد حلول موعدها المقرر، بل إن الكونغرس أصدر عقوبات تغطي على الالتزامات الأميركية في الاتفاق النووي الأمر الذي يعتبر خرقا صريحا للاتفاق، يمكن معه القول إن الأميركيين عمليا لا ينفذون الاتفاق.

يعلم الإيرانيون جيدا أن ترمب سيرفض الإقرار بالتزام إيران بالاتفاق النووي عاجلا أو آجلا، ليرمي الكرة في ملعب الكونغرس الأميركي أو يخرج من الاتفاق النووي كليا، ويعلمون جيدا أنه لا حيلة أمامهم إلا أن يدفعوا الأميركيين للخروج أو عرقلة هذا الاتفاق الذي لا يقومون بتنفيذه عمليا.

ويمكن أن يفسح ذلك المجالَ أمام الإيرانيين كي يعيدوا برنامجهم النووي إلى سابق حاله، أو يصعّدوا تهديداتهم بتطوير برنامجهم السابق، لكي يتراجع الغرب عن ممارسة ضغوطه على إيران.

ويراهن الإيرانيون على أن الجمهوريين سيخسرون الانتخابات المقبلة في الكونغرس بسبب تصرفات ترمب هذه، وأن الأخير لن يستطيع الوصول إلى البيت الأبيض بولاية ثانية بسبب تدني شعبيته، وأنه من الأفضل لهم مواصلة تنفيذ الاتفاق النووي مع كونغرس جديد ورئيس جديد؛ هذا إن بقي هناك اتفاق نووي حتى ذلك الحين.

عماد أبسناش

الجزيرة