تشهد العاصمة القطرية الدوحة لقاءات دبلوماسية محمومة، ومحادثات مكثفة، لم يسبق أن حدثت بمثل هذا الزخم، المستمد في الأساس من زخم اتفاق النووي التاريخي الذي توصلت إليه القوى العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، مع الجار الخليجي “المشاكس” إيران.
ولا تخفي دول الخليج، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، قلقها الشديد من الاتفاق، الذي ترى فيه مقدمة لتغول إيراني أوسع في المنطقة، وتشجيعاً لطهران على مواصلة انتهاج سياساتها “التخريبية” و”الطائفية” التي تستهدف هذه الدول، وكذلك استمرار دعمها لنظام الأسد ومليشيات حزب الله اللبناني في مواجهة الشعب السوري وتطلعاته المشروعة، والتي تحظى بدعم وتأييد عربي وخليجي واسع.
وإلى جانب سوريا، يبدو العراق وقد تحول إلى دوامة عنف لا تستثني أياً من أجزائه، سواء جغرافياً أو ديمغرافياً، فتنظيم الدولة الذي يسيطر على مساحات واسعة من هذا البلد المطل على الخليج العربي، بات يشكل هاجساً عسكرياً وأمنياً بالنسبة لدول المنطقة، كما أن مليشيات الحشد الشعبي الشيعية الموالية للحكومة والمدعومة بقوة من إيران لم تقدم صورة أقل دموية، في حين تقف حكومة حيدر العبادي عاجزة عن فعل شيء.
أما في اليمن، فالمشهد يبدو أكثر إشراقاً، بعدما تمكنت المقاومة الشعبية والقوات الموالية للرئيس عبد ربه منصور هادي من استعادة محافظة عدن وقاعدة العند العسكرية، وضيقت الخناق على الحوثيين والمسلحين الموالين للرئيس المخلوع علي صالح، وواصلت مسار التقدم الذي بدأ مع أيام عيد الفطر، وذلك بمساندة مستمرة من طائرات التحالف العربي.
تقاسم الكعكة
وفي ضوء هذه الأوضاع، تكتسب اللقاءات والمحادثات المنعقدة في الدوحة أهمية متزايدة، في ظل توقعات بأن تخرج بخطة ترسم حدود النفوذ الإقليمي، وتقسم “كعكة” القضايا الساخنة، وعلى رأسها اليمن وسوريا، ومحاولة للتفاهم حول القضايا ذات الصلة الأضعف بتداعيات الاتفاق النووي، كالعراق وليبيا.
وشهدت الدوحة، الاثنين، اجتماعاً مشتركاً لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، الذي التقى قبل ذلك بأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ووزير الخارجية السعودي، عادل الجبير.
وبحسب وزير الخارجية القطري، خالد العطية، الذي حضر الاجتماع، فقد ناقش اللقاء “نتائج قمة كامب ديفيد وآليات متابعتها”، إضافة للأوضاع في العراق وسوريا واليمن.
وكامب ديفيد هي القمة التي دعا لها الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، وجمعته بزعماء الدول الخليجية، وهدفت لطمأنتهم إزاء الاتفاق الأولي الذي كانت إدارته قد توصلت إليه مع إيران في لوزان السويسرية نهاية العام الماضي، وتعهد فيها أوباما بتعزيز الشراكة بين بلاده وهذه الدول، وعدم السماح لإيران باستخدام اتفاق النووي وسيلةً لخدمة مشاريعها في المنطقة.
مباحثات شاملة
طمأنة دول الخليج العربي ظلت هاجساً أمريكياً منذ الإعلان لأول مرة عن قرب التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، تماماً كما ظل هذا الاتفاق هاجساً خليجياً، ولا يخرج لقاء كيري مع نظرائه الخليجيين عن هذا المعنى، لولا أن اللقاء تزامن مع وجود وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الدوحة.
وعقب وصول لافروف إلى العاصمة القطرية، عقد لقاء مع نظيره القطري، خالد العطية، كما التقى برئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، والتقى كذلك بالرئيس السابق للائتلاف الوطني السوري المعارض، أحمد معاذ الخطيب، الذي يلقى قبولاً روسياً بوصفه من “المعارضة المعتدلة” التي تقبل التفاوض مع نظام الأسد، في تحركات توحي بمدى شمولية هذه المباحثات لقضايا المنطقة.
واللافت أيضاً تزامن لقاءات الدوحة مع رسالة لوزير الخارجية الإيراني، عراب صفقة اتفاق النووي، محمد جواد ظريف، توجه بها إلى دول الخليج، ولا سيما السعودية، على شكل مقال نشره في صحيفة السفير اللبنانية، وجعل عنوانه “الجار ثم الدار”.
ظريف الذي ينشر مقالته غداة جولة إقليمية له شملت الكويت وقطر والعراق، دعا إلى “البحث عن آليات تساعد جميع دول المنطقة على اجتثاث جذور التوتر وعوامله وغياب الثقة فيها”.
اليمن وسوريا
وفي خطوة عملية أكثر صراحة، اعتبر ظريف أن اليمن يمكن أن يشكل نموذجاً جيداً للخوض فيما أسماها “مباحثات جدية” بين طهران ودول الجوار، مذكراً بخطة بلاده لحل الأزمة في هذا البلد الذي تعتبره السعودية خاصرتها التي لن تتنازل عن المحافظة عليها في وضع آمن.
ونظراً لكون موسكو تشاطر طهران نظرتها إلى الوضع في سوريا، وبدرجة أقل في اليمن، فإن وجوده في الدوحة اليوم، ولقاءه المزمع مع نظيريه الأمريكي والسعودي، بالتوازي مع بحث تداعيات اتفاق النووي بين واشنطن وحلفائها الخليجيين، يوحي باحتمال أن تفرز الاجتماعات تفاهمات مهمة، قد تكون عودة اليمن إلى سابق عهده قبل الانقلاب الحوثي أولى معالمها.
ولم ينس الوزير الإيراني ظريف التذكير، في مقاله المذكور، بخطة بلاده التي طرحتها لحل الأزمة السورية قبل عامين، عارضاً أن تكون هذه الخطة على جدول أعمال “مباحثات استراتيجية” مع دول الجوار، واستخدام هذه المباحثات “للقيام بخطوات محددة لتحقيق تفاهم أفضل لدراسة ولتسوية قضايا كالإرهاب والتطرف، ومنع نشوب حروب مذهبية وطائفية”، وفق قوله.
يبدو العرض الإيراني أشبه بالمقايضة التي يعرضها ظريف على الخليجيين، فسوريا مقابل اليمن، إلا أن ما يمنع ترجيح قبول هذه المقايضة بهذه الصيغة، فيما لو صحت، هو أن الملف السوري يتسم بقدر بالغ من التعقيد، وتتقاتل على الأرض السورية أطراف عديدة، وتلوح في أفقها نذر تقسيم غير معلن، ما يستدعي ربما التفكير بـ”تسوية” تبقي على طرفي الصراع الأساسيين، نظام الأسد والمؤسسات المعارضة، السياسية والعسكرية، بما يضمن للأطراف الإقليمية حصصاً متكافئة.
وبصورة مشابهة، يبدو العراق لا يختلف عن سوريا إلا في التفاصيل، وإن كان واقعاً بصورة أكبر تحت تأثير النفوذ الإيراني، وتنشط فيه مليشيات مجهزة ومدربة ومدعومة إيرانياً بقوة، ولكن مع وجود التحدي المشترك المتمثل بتنظيم الدولة، وتبني السعودية والخليجيين لقضية العرب السنة المتضررين من كلا الجانبين، ترتسم في الأفق بوادر تسوية تحدد حجم النفوذ، وتهدئ وتيرة التدهور الأمني، وتنزع فتيل الصراعات.
لكن تبقى سوريا المرشح الأبرز، بعد اليمن، لتكون موضع تسوية على مائدة لقاء الدوحة الثلاثي، بين كيري ولافروف والجبير، لا سيما بعدما صرح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بأنه استشف من نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، أنه يتجه للتخلي عن مساندة الأسد، مؤكداً أن بوتين لم يعد مستعداً للوقوف إلى جانب الأخير “إلى الأبد”، فهل تتضمن أية تسوية قد يتوصل إليها الاجتماع الثلاثي مرحلة انتقالية بقيادة الأسد تنتهي بضمان رحيله نهائياً عن السلطة؟
إبراهيم العلبي
الخليج أونلاين