عنوان المقال عبارة مشهورة بين منتجي النفط المستقلين، حيث يدرك أكثرهم أن قوى السوق هي التي تعطيهم الفرصة على النمو وجني أرباح كبيرة، من دون أي تدخل حكومي. والحقيقة أن هذه العبارة هي مبدأ اقتصادي معروف بغض النظر عن تركيبة السوق وإذا كانت منافسة أم لا. وهذه القناعة بدور حرية الأسواق في تحقيق ثروات كبيرة هي التي جعلت أغلب منتجي النفط الأميركيين يعارضون قيام المفوضيات في كل من تكساس وأوكلاهوما وداكوتا الشمالية بإجبار المنتجين في هذه الولايات على تخفيض إنتاج النفط.
وعلينا أن ندرك أن قيام دول “أوبك” بتخفيض الإنتاج يختلف عن قيام هذه المفوضيات بإجبار المنتجين على الأمر ذاته. فالقرار في دول “أوبك” في يد مالك الاحتياطيات وهي الدولة ممثلة في حكومتها وشركتها النفطية الوطنية، فإذا كان المالك حراً في قرار تخفيض الإنتاج، فعلينا أن ندرك أن الأمر يختلف في الولايات المتحدة حيث تنتشر الملكية الخاصة للموارد، وقيام هذه المفوضيات بإجبار المنتجين على تخفيض الإنتاج يجعلها البلد الوحيد في العالم الذي يقوم به أشخاص غير ملاك بإجبار الملاك على تخفيض الإنتاج.
من هنا ندرك خطأ البعض في “أوبك” ودولها عندما طالبوا بتخفيض الولايات المتحدة للإنتاج، خصوصاً أنه عندما قامت سكة حديد تكساس بإقرار تخفيض الإنتاج لعدة حقول في الولاية الأميركية في بداية الثلاثينيات، لجأ المنتجون إلى المحاكم، وخسرت سكة الحديد كل القضايا، واحدة تلو الأخرى، في المحكمة. على إثر ذلك أعلن حاكم تكساس حالة الطوارئ، وفي ظل قانون الطوارئ، أمر الحرس الوطني باحتلال حقول النفط وإجبار المنتجين على وقف الإنتاج أو تخفيضه. الأمر نفسه حصل في أوكلاهوما. هذه الأمور لا يمكن أن تتكرر حالياً بأي شكل من الأشكال.
أسعار النفط سترتفع
إن أفضل حل لمعضلة انخفاض أسعار النفط هو أسعار النفط المنخفضة نفسها. لماذا؟ لأن انخفاض السعر يخفض المعروض عن طريق تخفيض الإنتاج والاستثمارات من جهة، ويحفز الطلب على النفط من جهة أخرى (ولكن في مرحلة ما بعد كورونا). بعد مرور فترة من الزمن، يتلاشى الفائض، ويصبح الطلب أكبر من المعروض، وترتفع أسعار النفط. ومن الآثار الإيجابية لانخفاض أسعار النفط أنها تؤدي إلى تباطؤ نمو مصادر الطاقة البديلة، بالتالي تنخفض معدلات الإحلال محل النفط عما هو متوقع، الأمر الذي يعني أن الطلب على النفط سيكون أعلى مما هو متوقع سابقاً، فترتفع الأسعار، ومن هنا فإن القول بأن الطلب علة النفط قد وصل إلى ذروته هو ضرب من الأحلام والجهل.
وهناك أمر آخر يغفل عنه المحللون، وهو أن شركات النفط العالمية هي في الحقيقة شركات طاقة، وليس نفط فقط، فإذا انخفضت أسعار النفط وانخفضت أرباح هذه الشركات، فإنها تقوم بتقليص استثماراتها، ليس في مجال النفط فقط، وإنما في كل المجالات التي تغطيها الشركة، الأمر الذي يؤثر سلباً في نمو المصادر البديلة للنفط.
كما ذكرت سابقاً، فإن تخفيض “أوبك+” للإنتاج لن يؤثر في المدى القصير بسبب الانخفاض المريع في الطلب على النفط. إلا أن آثاره ستظهر في المديين المتوسط والطويل، بغض النظر عما إذا التزمت كل الدول الأعضاء أم لا، لأن المهم هو الدور السعودي.
إلا أن الأسعار سترتفع في المدى القصير بسبب ارتفاع الطلب الناتج عن الإنهاء الجزئي أو الكلي للحظر في مختلف أنحاء العالم من جهة، والتخفيض القسري للإنتاج خارج دول “أوبك”، خصوصاً في الولايات المتحدة وكندا. وهذا التخفيض القسري نتج عن قيام الشركات في الولايات المتحدة بإغلاق الآبار العمودية ذات التكلفة العالية، وتقليل إنتاج الآبار الأفقية، وقيام شركات الرمال النفطية الكندية بوقف عمليات مناجم كاملة، لكن السبب الرئيس لارتفاع أسعار النفط مستقبلاً هو انخفاض الاستثمارات مع ارتفاع معدلات النضوب، الأمر الذي سيجعل الطلب أعلى من المعروض، وسيرفع الأسعار لفترة من الزمن.
وهنا يقول البعض، ما فائدة ذلك؟ ارتفاع أسعار النفط سيجعل منتجي النفط الصخري يزيدون الإنتاج كما فعلوا في السابق، بالتالي سنعود إلى الوضع نفسه: انخفاض كبير في الأسعار. والإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى تفصيل.
أولاً، مشكلة “الصخري” الأساسية هي أسعار الغاز والسوائل الغازية، فحتى يعاود هذا النفط نموه الكبير الذي شهدناه في الأعوام الثلاثة الماضية، يجب أن تتضاعف أسعار النفط والغاز والسوائل الغازية، وهذا أمر يصعب تحقيقه، وإذا تحقق، فإنه يحدث لفترة قصيرة من الزمن. فنظراً للنسبة العالية للغاز المصاحب والسوائل الغازية، فإن زيادة إنتاج النفط تعني بالضرورة زيادة إنتاج الغاز والسوائل الغازية، بالتالي انهيار أسعارهما، وانخفاض أرباح شركات “الصخري”.
ثانياً، انسحاب عدد كبير من المستثمرين في الصناعة بسبب الخسائر أو العائد البسيط مقارنة بالعوائد الكبيرة في قطاعات أخرى. هؤلاء المستثمرين لن يعودوا إلى “الصخري” إلا إذا انهارت عوائد القطاعات الأخرى، وارتفعت عوائد “الصخري” كما كانت عليه الحال بين 2009 و2014. كما أن هناك صناديق استثمارية قررت، لأسباب تتعلق بالتغير المناخي، الانسحاب من كل الاستثمارات المتعلقة بالوقود الأحفوري. وقد كانت من أكبر الصناديق الداعمة لـ”الصخري” في بدايته. طبعاً هناك صناديق متخصصة بالنفط والغاز ولها تاريح عريق في هذا المجال. أداء هذه الصناديق وما تقوم به يختلف عن بقية المستثمرين. فمع فورة “الصخري”، دخل مستثمرون جُدد إلى الصناعة ليس لهم بها أي علم، فنتج عن ذلك ارتفاع في التكاليف وخسائر كبيرة.
ثالثاً، مشكلة النفط الصخري هي نوعيته: خفيف، وخفيف جداً، وحلو. وما سبب زيادة صادرات الولايات المتحدة من النفط الخام في السنوات الأخيرة إلا لأن المصافي الأميركية لا تحتاج هذا النوع من النفط. ومع زيادة الصادرات فإن حالة التشبع هذه تصبح عالمية ولن تكون هناك حاجة لهذا النوع.
رابعاً، سبب زيادة صادرات النفط الأميركية في السنوات الأخيرة وتغلغلها في الأسواق العالمية هو العقوبات الاقتصادية على إيران من جهة، ووقف النفط الليبي وانخفاض إنتاج النفط النيجيري من جهة أخرى. عودة النفط الإيراني والليبي للأسواق ستحجّم من صادرات الولايات المتحدة، بالتالي من إنتاج “الصخري”.
إذاً ليس هناك خوف من نمو “الصخري” كما كان عليه في السابق مع ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات معقولة. وعلى الجميع أن يدرك أن السعودية ودول الخليج عموماً تستفيد من وجود النفط الصخري. فهي لا تريد قتله ولا قتل نموه، وكل ما تريده منه هو أن ينمو بشكل معقول بحيث يتواءم مع نمو الطلب العالمي على النفط من دون أن يأخذ أي حصة من الآخرين.
النفط الصخري سينمو مجدداً، لكن البداية ستكون من مستوى أقل، وبمعدلات أقل، ونموه بهذا الشكل سيكون في صالح دول الخليج. كل ما على هذه الدول عندما ترتفع الأسعار أن تمنعها من الوصول إلى مستويات عالية حتى لا يتكرر الماضي. حالياً عليها أن تزيد الإنتاج إذا ارتفعت الأسعار بشكل ملحوظ وتمنع أسعار خام “برنت” من الارتفاع فوق 70 دولاراً للبرميل، فمنع الأسعار من تجاوز هذا المستوى سيمكّنها من إدارة السوق لعدة سنوات، خصوصاً مع زيادة الطاقة الإنتاجية في كل من السعودية والإمارات والكويت، وعودة ليبيا وإيران إلى أسواق النفط العالمية مستقبلاً. وفي النهاية، ستقوم الرياض ببيع كميات أكبر بأسعار أعلى.
أنس بن فيصل الحجي
اندبندت عربي