العامل السياسي وأثره في اندلاع الثورات

العامل السياسي وأثره في اندلاع الثورات

11655081_837620712986381_955998344_n

اختلف علماء الاجتماع السياسي في توصيف الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورات بين عامل اقتصادي (الماركسية التقليدية، الماركسية الجديدة إلى حد ما) وبين عامل سياسي ثقافي (سوسيولوجيا ما بعد الحداثة، دعاة المنهج المقارن)

وهذا الاختلاف يعود إلى تعقد الظاهرة الاجتماعية الكبرى، لا سيما عندما تكون ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وثقافية ودينية، بحيث يصعب تحديد سبب بعينه يكون العامل الأبرز في تفسير الظاهرة.
ومع ذلك فقد احتفظ كثير من المدارس بالرؤية الماركسية ذات البعد الاقتصادي في تفسير الظواهر وإن حاولت الماركسية الجديدة تخفيف وطأة الاقتصادي في عملية التفسير، وإدخال البعدين الثقافي والسياسي في عملية التحليل.

التفسير السياسي
التركيز على البعد السياسي في اندلاع الثورات غير ناجم عن رؤية وموقف أيديولوجي، بقدر ما هو ناجم عن قراءة موضوعية لطبيعة الحدث، وهذه القراءة الموضوعية تتطلب أولا عدم استبعاد الأسباب الأخرى في عملية تفسير الظواهر لا سيما العامل الاقتصادي الذي يظل حاضرا دائما كبنية تحتية مؤثرة في السلوك الاجتماعي.

لقد بينت التجارب التاريخية أن العامل الاقتصادي غير كاف في تفسير اندلاع الثورات، فالفقر وحده لا يؤدي إلى الثورات ولا ينتج وعيا ثوريا مفارقا، ولا بد من البحث عن أسباب أخرى مؤثرة، وتصبح فكرة الانتفاضة أو الثورة ممكنة في الوعي الجمعي مع إهدار آدمية المواطن بحسب تعبير الكاتب اليمني أيمن نبيل وتحويل الإهانة إلى أسلوب مكرس للضبط الاجتماعي، وهنا يتخلق الوعي بالقيم.

يقول صموئيل هنتنغتون إذا كان الفقر يؤدي إلى عدم الاستقرار، فإن تطور التعليم وارتفاع مستوى القراءة والكتابة ووسائل الاتصال العامة والتصنيع والنمو الصناعي والتمدين يجب أن تنتج استقرارا، لكن الواقع يبين عكس ذلك، ليس غياب العصرية هو ما ينتج الفوضى السياسية بل الجهود للوصول إليها، وبالتالي كيف يمكن تفسير الاستقرار السياسي في الهند على سبيل المثال حيث بلغ الفقر حدا كبيرا، في حين تفتقر الأرجنتين وفنزويلا اللتان تمتعتا بنسبة عالية من التطور الاقتصادي لهذا الاستقرار.

وفي كتابه الهام “نقد الطريق الاقتصادي كأداة للاتحاد السياسي” يؤكد نديم بيطار -بناء على إحصائيات أممية- أن الثورات اندلعت في أميركا اللاتينية في الدول التي حققت تطورا وتنمية اقتصادية واضحة، فيما لم تشهد الدول الفقيرة في القارة نفسها ذات الخصوصية المشتركة أية ثورة أو انتفاضة باستثناء بلد واحد.

غير أن أحدث تفسير لأهمية البعد السياسي في الثورات هو ما توصل إليه عالم الاجتماع بارنيغتون مور في كتابه “الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية”، حيث رفض إرجاع ثورة الفلاحين في أوروبا إلى أسباب اقتصادية، فالفلاحون الإنجليز المدمرون من قبل التسييج ليسوا هم الذين هبوا للثورة، بل الفلاحون الفرنسيون الذين احتفظوا بممتلكاتهم وجزء من حقوقهم، ولم يكن فلاحو شرق ألمانيا الذين تحولوا إلى أقنان هم من لجؤوا إلى الانتفاضة، بل فلاحو الجنوب الذين احتفظوا بأسلوب حياتهم القديم ووسعوه، ويجادل مور أن السبب المساهم لثورة الفلاحين هو ضعف الصلات المؤسسية التي تربط مجتمع الفلاحين بالطبقات العليا، إضافة إلى الطابع المتفجر لهذه العلاقة.

وفي ألمانيا اكتشف مور أن ثورة الفلاحين التي جرت بمنطقة كونيغسبرغ عام 1525 قام بها الفلاحون الأثرياء، فيما لم تشهد المناطق الأخرى حيث كان الفلاح معدما أية انتفاضة.

بناء على ما تقدم، لم يكن الفقر والحجم الضخم للبؤس كافيين في تفسير اندلاع الانتفاضات والثورات، وبالتالي كيف يمكن تفسير أن الهند كانت أكثر الدول فقرا في العالم وحققت درجة عالية من الاستقرار السياسي؟، في حين فشلت الأرجنتين وفنزويلا في تحقيق الاستقرار السياسي مع نجاحهما في تحقيق تطور اقتصادي ملحوظ؟

والسبب في ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى مدى تطور وتخلف المؤسسات السياسية في هذه الدول، فالهند على سبيل المثال حققت تقدما ملحوظا في نظامها السياسي من خلال طبيعة الإدارة المدنية المقامة التي لعبت دورا رئيسا في عملية الاستقرار السياسي، ومن خلال حزب الكونغرس الذي تأسس نهاية القرن الـ19 ويعتبر من أكثر الأحزاب تنظيما على مستوى العالم.

الحالة العربية
ربما تبدو الحالة العربية أكثر وضوحا فيما يتعلق بطغيان وتأثير العامل السياسي في اندلاع الثورات على غيره من العوامل الأخرى كالعامل الاقتصادي مثلا.

لم تنشأ الثورات العربية في الأرياف المعدمة اقتصاديا، ولا في مركز الدولة (العاصمة) باستثناء اليمن ومصر التي تختزل فيها القاهرة الحالة المصرية برمتها، وصنعاء الحالة القبلية، وإنما انطلقت من المراكز الطرفية للعواصم سيدي بوزيد/ تونس، بنغازي/ ليبيا، درعا/ سوريا.

وأبناء هذه المراكز الطرفية هم من الطبقة الوسطى بشقيها المتعلم وغير المتعلم الذين عملوا في مؤسسات الدولة والورش المتوسطة والشركات والمصانع الخاصة، وبحكم كونها الطبقة الأكثر انتشارا أولا، والأكثر تضررا من سياسات الدولة الاقتصادية ثانيا، والأكثر اهتماما بتغيير منظومة الحكم السياسية ثالثا، تبنت هذه الطبقة منذ الأيام الأولى للثورة الشعارات السياسية المعبر عنها “بالحرية” مع ما تتضمنه أيضا من بعد اقتصادي.

في سوريا المثال الأكثر وضوحا تمثل بشعار حرية وبس مع ما يحمله في مكنونه من صرخة على الاستبداد والظلم الاقتصادي، وفي اللحظة التي حاول فيها النظام اختزال الحراك الجماهيري في درعا بالبعد الاقتصادي (تصريح بثينة شعبان)، أطلق الأهالي شعارهم “يا بثينة يا شعبان شعب درعا مو جوعان”، هنا نحن أمام شعار غير عفوي بقدر ما هو شعار على درجة كبيرة من الوعي السياسي الذي يعكس طبيعة المشكلة.

وفي اللحظة التاريخية التي انتقل فيها المتظاهرون من شعار الحرية إلى شعار إسقاط النظام، لم تكن ردا على سياسة النظام الأمنية فحسب، بل كانت ناجمة في الأساس عن قناعة المتظاهرين أن تغيير البنى السياسية والاقتصادية في البلد لن يتم دون إسقاط منظومة الحكم القائمة.

ثمة نقطة أخرى تؤكد أهمية العامل السياسي في طبيعة الثورة السورية والشكل الذي اتخذته، وهو عزوف الأقليات الطائفية عن المشاركة في الثورة السورية، ويعود هذا العزوف إلى أسباب سياسية وليس اقتصادية، ولو كان العامل الاقتصادي هو الأساس لكان العلويون أول من خرج في الثورة على اعتبار جبل العلويين الأكثر فقرا في سوريا.

إن الأسباب السياسية ورؤية كل طائفة لذاتها ضمن بنية المجتمع والدولة من جهة وضمن حراك الثورة من جهة ثانية هما السبب في عزوف الأقليات عن المشاركة في الثورة، وجعلهم يقفون على الحياد في العموم مع وجود حالات مؤيدة للنظام وأخرى معارضة له.

وفي تونس بدأت الانتفاضة كدعم لسيدي بوزيد قبل أن تتحول إلى ثورة عارمة، وفي مصر بدأت مطلبية بسبب حجم الفقر التاريخي، لكن سرعان ما كشفت عن نفسها في المستوى السياسي، ولم تكن صدفة أن تهيمن القوى الشبابية المتعلمة من الطبقة الوسطى على مسار الثورتين التونسية والمصرية، لأن الطبقة الوسطى هي وحدها التي تمتلك وعيا سياسيا.

لم تقم الثورة المصرية لأسباب اقتصادية مباشرة، لقد حدث تحول مهم في المجتمع المصري خلال السنوات التي سبقت الثورة، كاتساع دائرة المجتمع المدني وظهور حركات احتجاجية مثل حركة كفاية لعبت دورا مهما في توعية الشعب وتوحيده تحت مطالب التغير في وقت بدأ النظام المصري بالترهل على الصعيد السياسي، ومحاولته تعويض ذلك بتشديد قبضته على الحكم كان من نتيجتها تزوير الانتخابات التشريعية التي سبقت الثورة، ومحاولة إجراء عملية توريث مبطنة.

ولو كان العامل الاقتصادي وحده كافيا لتفسير اندلاع الثورة لتطلب الأمر تساؤلا كبيرا: لماذا لم تندلع الثورات في الدول الفقيرة والمهمشة فقط؟ كيف يمكن تفسير اندلاع الثورة في تونس وليبيا حيث الوضع الاقتصادي أفضل بكثير مما هو عليه في مصر وسوريا؟

أخيرا، إن ربط الثورات بالعامل الاقتصادي هو ربط يخدم الأنظمة الاستبدادية لأنه يغيب حقيقة هذه الأنظمة والدمار الذي ألحقته في بنية الدولة والمجتمع ومحاولتها الهيمنة على كينونة الإنسان ومستقبله.

حسين عبدالعزيز

  الجزيرة نت