وعد بالانسحاب الكامل من العراق وأصر عليه ثم عاد وأرسل مجموعات من المستشارين العسكريين بعد أن تدهور الوضع الأمني وانتشرت «داعش» وأخواتها. وأعلن وأكد مراراً وتكراراً أن الانسحاب من أفغانستان سيمضي إلى غايته المحددة لينتهي العام المقبل، إلا أن الظروف أجبرته على إعادة جدولة الانسحاب والقبول ببقاء قوات أمريكية بعد المهلة المحددة.
وفي ولايته الأولى أعلن أنه لابد من وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية وأن هذا يجب أن يتم «أمس» وليس «غداً» على حد تعبير وزيرة خارجيته آنذاك هيلاري كلينتون. واستمر الاستيطان بينما صمت أوباما وابتلع تصريحاته. ويتذكر المتابعون لحملته الانتخابية الأولى وعده بإغلاق معتقل غوانتانامو سيئ السمعة الذي ما زال مفتوحاً في حين تقترب ولايته الرئاسية الثانية من الانتهاء.
خلال الأسبوع الماضي كان جمهور أوباما على موعد مع تراجعين جديدين. الأول هو تغيير موقفه الرافض للتورط المباشر في الحرب السورية حيث قرر نشر قوة عمليات خاصة من 50 فرداً داخل سوريا لتقديم المشورة والتدريب للمعارضة المسلحة. التراجع الثاني كان قبوله مشاركة إيران في مؤتمر فيينا للسلام حول سوريا بعد أن ظل يرفض أي دور لها في بحث مستقبل سوريا.
وفي كل المرات التي غيرت فيها إدارة أوباما موقفها لم تعترف قط بأنها كانت على خطأ، أو أن سياستها لم تكن واقعية. تجادل إدارة أوباما دائماً بأنه كان لديها ما يدعوها لتبني موقف ما ثم نقيضه فيما بعد، معللة موقفها بمجموعة من المبررات الواهية التي لا تصمد أمام أي مناقشة جادة. على سبيل المثال قالت إن موافقتها على مشاركة إيران في مباحثات فيينا استهدفت اختبار موقف إيران وروسيا بشأن رحيل الأسد في إطار اتفاق للتسوية ونقل السلطة. فضلاً عن اختبار جدية الدولتين فيما يتعلق بمحاربة «داعش».
في حين أن الحقيقة الثابتة هي أن موقف البلدين من الأسد معروف منذ البداية ولا تحتاج واشنطن للذهاب إلى فيينا للاستماع إليه منهما. وإذا كانت جادة حقاً وتعتبر أن المباحثات الدولية هي الإطار المناسب لمعرفة ذلك الموقف، فلماذا رفضت مشاركة طهران في كل جولات الحوار السابقة.
جاء القبول الأمريكي لمشاركة إيران في مؤتمر فيينا بعد نحو أربعة أعوام من الرفض القاطع لحضورها أي مباحثات حول سوريا. وظل الأمر كذلك حتى الجولة الأخيرة من تلك المباحثات التي عقدت في يناير/كانون الثاني من العام الماضي. بطبيعة الحال لم يكن هذا الإصرار الأمريكي على استبعاد إيران منطقياً على ضوء تورط إيران الواضح والكبير في الأزمة ودعمها بلا حدود لنظام بشار، وتسليحها لحزب الله الذي يشترك مقاتلوه في الحرب.
درس آخر أثبتت التطورات أنه لم يستوعبه أيضاً أو أنه استوعبه متأخراً جداً وهو حدود وحجم الدور الذي يجب أن تقوم به بلاده في سوريا. اكتشفت الإدارة الأسبوع الماضي فقط أن ما تقدمه من دعم عسكري أو مادي للمعارضة لا يكفي لا لمحاربة “داعش” ولا للقضاء على النظام، الذي أصبح موقفه أقوى سياسياً وعسكرياً بعد التدخل الروسي الفعال لصالحه.
نفس هذا التدخل ربما يكون هو الحافز الحقيقي لتغيير الموقف الأمريكي سواء لإنقاذ المعارضة الموالية لها والتي أصبحت مستهدفة من روسيا، أو لتوجيه رسالة تحذيرية إلى موسكو بأنها (أي واشنطن) موجودة أيضاً ويمكن أن تزيد من تواجدها لو اقتضى الأمر. بمعنى آخر تريد واشنطن أن تقول للروس إنها لن تترك لهم سوريا بهذه البساطة.
أياً كان السبب فقد جاء التسويق الأمريكي للتراجع هذه المرة هزيلاً حيث وصف المتحدث باسم الخارجية إرسال القوات بأنه «تعديل» وليس «تغييراً» في الاستراتيجية الأمريكية القائمة على عدم التورط في النزاع. ولم يوضح المتحدث لماذا لم يتم هذا التعديل قبل التدخل الروسي وقبل أن تتمدد «داعش» على هذا النحو.
في كل الأحوال أجبرت الظروف أوباما على تغيير موقفه هذه المرة كما أجبرته على ذلك في المرات السابقة. وليس لذلك من تفسير سوى خطأ الحسابات والتسرع في تبني وإعلان مواقف غير واقعية من دون دراسة كافية.
وما تفعله واشنطن الآن ليس إلا محاولة لتصحيح الخطأ وعودة إلى الواقعية التي افتقدتها سياساتها في التعامل مع الأزمة السورية شأنها شأن غيرها من القضايا الدولية. إلا أنه لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن تلك العودة المتأخرة ستكلل بالنجاح، أو ستصلح ما أفسدته سنوات من السياسة الخارجية المترددة لإدارة أوباما. والأرجح أن الرئيس الأمريكي الذي سيترك البيت الأبيض بعد أشهر لن يكون لديه من الوقت والجهد والرؤية ما يسعفه لإنجاز هذا الهدف الصعب.
عاصم عبدالخالق
صحيفة الخليج