إن الأزمة الأخيرة بين بغداد وأنقرة، على خلفية الوجود العسكري التركي في قاعدة التدريب الأمامية في ناحية بعشيقة الواقعة في شمال العراق، قد سلطت الضوء على قضية تعود إلى عام 1992. ويكمن إرجاع الدافع الاستراتيجي لهذا الانتشار الأمامي التركي إلى نقلة نوعية كانت قد سُجلت في التسعينيات، عندما تبنت “القوات المسلحة التركية” استراتيجية صراع منخفض الحدة رداً على تهديدات إرهابية صادرة عن «حزب العمال الكردستاني». ويشكل الانتشار الحالي امتداداً لردة فعل أنقرة الجيوستراتيجية على الحروب الصغيرة على طول حدودها الجنوبية، ومن غير المرجح أن تنسحب “القوات المسلحة التركية” من شمال العراق في المستقبل القريب إلى المتوسط.
الطريق إلى الوجود التركي الدائم
في خضمّ التحدي العنيف الذي طرحه «حزب العمال الكردستاني» في بداية التسعينيات، استبدلت “القوات المسلحة التركية” نظام المعركة المرتكز على الفرق الثقيلة الذي كانت تطبقه في حقبة الحرب الباردة بقوة مرتكزة على ألوية تتمتع بقدرة عالية على التنقل وقابلة للانتشار بسرعة. وفي ذلك الوقت، كان مقاتلو «حزب العمال الكردستاني» في المناطق الحدودية الجبلية في شمال العراق يلجأون إلى التنقلات الليلية لتعزيز تحركاتهم وحماية أنفسهم ضد القوات التركية. ورداً على ذلك، قامت “القوات المسلحة التركية” بتحسين قدرات سلاحها الجوي من خلال شراء مروحيات هجومية ومروحيات خدمات مزودة برؤية ليلية واستخدامها لعمليات الكوماندو [المغاوير] القوية القائمة على الدعم الجوي عن قرب والهجوم الجوي.
كما تبنت “القوات المسلحة التركية” استراتيجية قائمة على البحث والتدمير بدلاً من مقاربتها الدفاعية السابقة المرتكزة على المراكز العسكرية، وقامت بتعزيز وحدات المغاوير النخبوية المتمركزة في الجبال لهذه الغاية. وقد أتى هذا التحول بثماره، إذ أدى إلى نشر “اللواء البرمائي التابع للبحرية التركية” لإنجاز عمليات مكافحة الإرهاب في جنوب شرق الأناضول وعلى طول الحدود العراقية.
ولكن، بالرغم من هذا التحول الهائل، استمرت “القوات المسلحة التركية” في مواجهة التحدي الذي تمثّل باستفادة «حزب العمال الكردستاني» إلى حد كبير من الفراغ في السلطة في شمال العراق في أعقاب “حرب الخليج” الأولى. وفي ذلك الوقت، كانت قيادة الحزب مرتكزةً في سوريا وسهل البقاع في لبنان الذي كان خاضعاً للاحتلال السوري، حيث أمّن لها الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، والد الدكتاتور السوري الحالي بشار الأسد، ملاذاً آمناً منذ مطلع الثمانينيات. إلا أن المناطق الحدودية التركية- السورية كانت بمعظمها عبارة عن أراضٍ منخفضة زُرعت بحقول ألغام واسعة منذ بداية الحرب الباردة، وبالتالي لم تكن مناسبةً لغارات «حزب العمال الكردستاني» على المراكز العسكرية التركية. لذلك، أقام الحزب مناطق تجمّع/إنطلاق وقواعد عمليات في ظل فراغ السلطة الذي كان سائداً في شمال العراق، والذي استغله الحزب لإعادة تنظيم صفوفه بعد عمليات مكافحة الإرهاب التركية. وعلى الرغم من أنّ أنقرة كانت قد وقّعت “اتفاق تعاون على حفظ أمن الحدود” مع العراق في الثمانينيات، إلاّ أنّ الوثيقة لم تسمح سوى بالقيام بأعمال ملاحقات عنيفة في أعقاب شن هجمات إرهابية، وليس بعمليات واسعة النطاق وطويلة الأمد.
ومع ذلك، شنت تركيا حملة عسكرية طموحة عبر الحدود منذ عام 1992، من خلال نشر ما يقرب من 15 ألف جندي من القوات الجوية والجيش والدرك للمشاركة في العمليات في شمال العراق. وكانت تلك ثاني أكبر حملة تشنها تركيا في أعقاب تدخلها العسكري في قبرص في عام 1974، وقد ألحقت خسائر فادحة بـ «حزب العمال الكردستاني». وفي عام 1995، شنت “القوات المسلحة التركية” حملةً أكبر ضخامة، هي “عملية الفولاذ الأولى”، عبر نشر حوالي 35 ألف جندي على مسافة وصلت إلى حد 60 كيلومتراً في عمق الأراضي العراقية ومن خلال تعبئة “القيادة الجوية التكتيكية الثانية”، المتمركزة في مدينة ديار بكر وفقاً لنظام المعركة العقائدي للقوات الجوية في ذلك الحين. وقد توغّلت “قوات العمليات الخاصة” بشكل أعمق داخل الأراضي العراقية بهدف جمع الاستخبارات العسكرية. وتبع ذلك سلسلة من العمليات متعددة الألوية في عام 1997، من بينها “عملية المطرقة”.
ولتحقيق هدفها الأسمى المتمثل في اكتساب عمق استراتيجي في شمال العراق، بدأت “القوات المسلحة التركية” بإرساء وجود دائم لها بالتزامن مع حملاتها عبر الحدود. وفي عام 1994، اندلعت حرب أهلية بين الفصيلين الكرديين الرئيسيين في شمال العراق هما «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، و «الاتحاد الوطني الكردستاني» الذي كان متحالفاً مع إيران و «حزب العمال الكردستاني» في ذلك الحين. وقد بقيت الحرب مستعرّةً بالرغم من وقف إطلاق النار المتكرر، الأمر الذي مهد الطريق لوجود تركي مفتوح الأفق في عدة قواعد عراقية، مع تعاون «الحزب الديمقراطي الكردستاني» الضمني والصريح تدريجياً. وبحلول نهاية العقد، أصبح ذلك الوجود عبارة عن قوة بحجم لواء تركز على ثلاثة أهداف: ضمان الاستقرار في شمال العراق ومحاربة النفوذ الإيراني من خلال هيمنة «الاتحاد الوطني الكردستاني» والحد من استخدام «حزب العمال الكردستاني» للمنطقة كملاذ آمن ونقطة انطلاق.
تقييم الانتشارات الحالية
وفقاً لأدلة من مصادر مفتوحة، يتمحور وجود تركيا الحالي في شمال العراق حول تشكيلة مدرعة مدعَمة بحجم كتيبة في مطار بامرني في منطقة «حكومة إقليم كردستان». وتتمركز كتيبة مغاوير في قرية “كاني ماسي” تتمثل مهمتها المتعلقة بأمن الحدود بمنع توغل «حزب العمال الكردستاني». بالإضافة إلى ذلك، تقوم وحدات “العمليات الخاصة” بمهام اتصال مع مسؤولين في «حكومة إقليم كردستان» و«الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» منذ أكثر من عقدين من الزمن.
فضلاً عن ذلك، فإن بروز تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» قد دفع تركيا إلى نشر قواتها ضمن نطاق أكثر عمقاً داخل شمال العراق. ففي ربيع عام 2015، أرسلت أنقرة جنوداً إلى ناحية بعشيقة بالقرب من الموصل وخارج المناطق الخاضعة لسيطرة «حكومة إقليم كردستان»، وذلك بهدف تدريب العرب السنة والأكراد على محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي وقت سابق من هذا الشهر، أرسلت أنقرة قوة بحجم كتيبة من “لواء المغاوير الثالث”، مدعومةً من حوالي 25 دبابةً من طراز “M-60A3 “، إلى المنطقة. وتجدر الإشارة إلى أنه قد أعيد تنظيم “القوات البرية التركية” وفقاً لأجندة تحديث حازمة في العقد الأول من الألفية الحالية، وأصبحت ألوية المغاوير التابعة لها تتضمن اليوم عناصر محترفة إلى حد كبير.
وبتشجيع من طهران وموسكو، انتقدت بغداد الوجود التركي في بعشيقة، حتى أنها هددت في الآونة الأخيرة بتقديم شكوى ضد أنقرة في مجلس الأمن الدولي. وعلى أثر ذلك، نقلت “القوات المسلحة التركية” معظم قواتها إلى الأراضي الخاضعة لسيطرة «حكومة إقليم كردستان» في الوقت الراهن، أملاً في التخفيف من حدة التوتر.
الانعكاسات على واشنطن
في الوقت الحاضر، لدى تركيا ما يقرب من 3000 جندي في العراق. وعلى الرغم من أن هذه القوات لا يمكنها بذل القوة اللازمة لاستعادة الموصل أو حماية منطقة «حكومة إقليم كردستان» بأكملها من تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلا أنها تؤدي بعض المهام الرئيسية التي قد تخدم المصالح الأمريكية.
أولاً، من خلال نشر دبابات وكتيبة مغاوير قوية بالقرب من المواقع الخاضغة لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» في الموصل، سلطت أنقرة الضوء على موقعها السياسي- العسكري في شمال العراق. ومن خلال نقل جنودها بدلاً عن سحبهم بالكامل، أشارت أنقرة بأنها مستعدة لاستخدام أدوات القوة الصارمة في العراق عبر العمل مع «حكومة إقليم كردستان»، مستعرضةً بذلك نفوذها ضد «حزب العمال الكردستاني» وتنظيم «الدولة الإسلامية».
ثانياً، من منظور عسكري محض، إن الانتشار الأمامي قد يمهد الطريق أمام توغل أوسع في إطار المتابعة إذا ما دعت الحاجة. فتركيا تقصف مخيمات تابعة لـ «حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق منذ عام 2007، وتحصل على مساعدة الولايات المتحدة في الاستيلاء على الأهداف. وإذا شعرت يوماً بالحاجة إلى شن عملية برية أيضاً، فقد يكون انتشار 3000 جندي وعشرات دبابات القتال الرئيسية عبر الحدود أشبه بامتلاك قوة للرد السريع داخل العراق، سواء ضد «حزب العمال الكردستاني» أو تنظيم «الدولة الإسلامية».
ثالثاً، يبدو أن أنقرة تتفاعل مع ما يُعرف بـ “عقيدة جيراسيموف” التي تتبعها روسيا، والتي تنشئ من خلالها موسكو دائرة نفوذ في بلاد الشام عبر مقاربات غير ممنهجة، مثل التنسيق مع طهران وبغداد ودمشق بشأن مسارات صواريخ “كروز” من بحر قزوين إلى الداخل السوري. ورداً على ذلك، تستخدم أنقرة قواتها العسكرية الخاصة لتُظهر عدم استعدادها للتراجع في إطار التنافس الإقليمي مع موسكو وطهران. ومن الأهمية بمكان أن يُشار هنا إلى أن مراكز الانتشار الرئيسية للقوات التركية هي قرب الموصل — مدينة عثمانية سابقاً تنازعت تركيا مع الإمبراطورية البريطانية على ملكيتها بعد الحرب العالمية الأولى. ومنذ ذلك الحين، بقيت هذه المدينة تستحوذ اهتمام أنقرة. وبعد “حرب العراق”، أنشأت أنقرة علاقات جيدة مع العرب السنة في الموصل، بمن فيهم المحافظ السابق أثيل النجيفي وعائلته التي تتمتع بنفوذ واسع.
وعلى الرغم من أن الوحدات الأمامية التركية المنتشرة لا يمكنها تغيير الواقع العسكري في مجال واسع من العمليات، إلا أنه من المهم التأكيد على أن أي اعتداء يطال هذه الوحدات، على غرار الهجوم الذي شنه تنظيم «الدولة الإسلامية» مؤخراً على مخيم بعشيقة، قد يؤدي إلى التصعيد. وفي الوقت الحاضر، سحبت أنقرة معظم عناصرها من بعشيقة، ولم تُبقِ سوى المدرِّبين. وبغض النظر عن تواجد هذه القاعدة أو غيابها، أنشأت تركيا بالفعل قوة رادعة معقدة في شمال العراق. بيد، إن أي انتشار أمامي جديد بالقرب من الجبهات الأمامية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، في بعشيقة أو في أي منطقة أخرى، قد يجعل من القوات التركية هدفاً في المستقبل.
كان كاسابوغلو
سونر چاغاپتاي
معهد واشنطن