يبدو أن ثمة تحولا ما في سياسات الدول الأوروبية باتجاه الاهتمام بشكل أكبر بمنطقة الشرق الأوسط، التي باتت أزماتها المتعددة تفرض تداعيات مباشرة على مصالحها وأمنها، بشكل ربما يدفعها إلى مزيد من الانخراط في التعامل مع تلك الأزمات. ومن هنا اكتسب مؤتمر “حوار المنامة”، الذي عقد خلال الفترة من 5 إلى 7 ديسمبر 2014، أهمية خاصة، إذ أن الكيفية التي عبرت بها الدول الأوروبية عن رؤيتها لتفاعلات منطقة الشرق الأوسط، في ظل عدم وجود تمثيل أمريكي في المؤتمر، على غرار عام 2013، فضلا عن كيفية تفاعل الدول المشاركة فيه مع تلك الرؤية الأوروبية، تعد مؤشرًا مهمًا على مستقبل الإقليم، من حيث أدوار القوى الدولية فيه.
ثلاثة رسائل أوروبية:
تشير المناقشات التي عقدت في إطار “حوار المنامة” إلى ثلاثة رسائل محددة، عملت الدول الأوروبية المشاركة في المؤتمر على توجيهها، وتتمثل في:
1-الفصل بين “داعش” وسوريا، والملف النووي الإيراني، فقد صرح وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لودريان بأنه “إذا كانت إيران تريد محاربة داعش، فهذا لأن التنظيم يمكن أن يشكل تهديدًا لمصالحها الخاصة”، بما يعني أن انخراط إيران في الحرب ضد التنظيم لا يرتبط بالمفاوضات النووية التي تجري مع مجموعة “5+1″، وذلك بالتزامن مع العمليات التي نفذتها إيران ضد “داعش” في العراق، وهو التطور الذي عده وزير الخارجية الأمريكي جون كيري “إيجابيًا”.
2-السعى إلى المشاركة في إدارة أزمات المنطقة، إذ كان لافتًا حرص الدول الأوروبية المشاركة في المؤتمر على تأكيد قدرتها على المشاركة في إدارة أزمات الإقليم، فعلى سبيل المثال، أكد وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون على أهمية “الاعتدال” في استخدام الأداة العسكرية في هذه الأزمات، بما في ذلك الحرب على “داعش” سواء في سوريا أو في العراق، مضيفًا أن دور بريطانيا في هذه الحرب يتمثل في تزويد التحالف بطائرات المراقبة وتوفير التدريب والمعدات وضباط الأركان. ويتزامن ذلك مع تزايد اهتمام بعض تلك الدول بالوصول إلى تسوية لبعض الأزمات الإقليمية، على غرار المبادرة الأخيرة التي طرحتها فرنسا لإنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان، خلال زيارة مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية الفرنسية جان فرانسو جيرو إلى بيروت في 8 ديسمبر 2014.
3-تعزيز الوجود الأمني الأوروبي، إذ يبدو أن الدول الأوروبية تتجه نحو تعزيز أدوارها الأمنية في الإقليم، فعلى سبيل المثال، تناقش الحكومة الألمانية إمكانية ممارسة دور في طرح تصورات خاصة بتأمين منطقة الخليج، كما تحدث وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند عن وجود ترتيبات بين بلاده والبحرين لإرسال معدات أكثر للمنطقة، ووقعت بريطانيا والبحرين اتفاقية لإنشاء قاعدة بحرية، حيث أكد وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون على أن هذا الترتيب هو “جزء من استراتيجية عسكرية أمنية جديدة لبريطانيا”، وأنه يأتي ضمن إعادة تقويم لسياستها العسكرية الاستراتيجية في المنطقة.
بدائل “جديدة”؟
تضفي الأجواء التي عقد في إطارها مؤتمر “حوار المنامة” هذا العام، أهمية خاصة على الطرح الأوروبي في هذا المؤتمر، لا سيما في ظل غياب الولايات المتحدة، بالتزامن مع استقالة وزير الدفاع الأمريكي تشاك هيجل وعدم موافقة الكونجرس على وزير الدفاع الجديد حينها. فمن ناحية، يتزامن انعقاد هذا المؤتمر مع تزايد القضايا الخلافية بين بعض دول منطقة الشرق الأوسط وواشنطن، سواء فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، أو دور إيران في الحرب على “داعش”، أو كيفية إدارة الصراع في سوريا، على نحو ربما يدفع بعضها، وفقًا لاتجاهات عديدة، إلى البحث عن بدائل دولية توفر ظهيرًا ما للسياسات التي تتبناها تجاه هذه القضايا.
ومن ناحية ثانية، تدخل واشنطن مرحلة “التراجع” كقوة مهمة في المنطقة، حيث أنها لم تتمكن بعد من التوصل إلى اتفاق نهائي مع إيران، وهو الملف الرئيسي الذي يسعى الرئيس الأمريكي باراك أوباما لتحقيق إنجاز تاريخي فيه قبل أن تنتهي ولايته الثانية. كما أنه في ظل التغير الذي طرأ على استراتيجيتها للانخراط العسكري في الخارج نتيجة القيود الواردة على الإنفاق العسكري، وتوجهها لعدم التورط عسكريًا في الشرق الأوسط بصفة عامة، تخلت عن الخيار العسكري في التعامل مع نظام الأسد، حتى أن حربها على “داعش” تضمنت فقط ضربات جوية شاركت فيها بعض القوى الإقليمية والدولية، دون أن يؤثر ذلك على مكانتها كقوة مهمة في المنطقة، حيث لا تزال هى من يقود هذه الحرب.
ومن ناحية ثالثة، يبدو أن الدول الأوروبية تتجه نحو الاهتمام بشكل أكبر بالمنطقة، فعلى سبيل المثال، يشير محللون إلى أنه بعد الانسحاب العسكري البريطاني من أفغانستان، قد تسعى لندن لتعزيز وجودها العسكري في المنطقة، ويدعم ذلك حديث رئيس هيئة الأركان العامة البريطانية الجنرال سير ديفيد ريتشاردز في ديسمبر 2013، عن أنه “بعد أفغانستان، سيصبح الخليج الجهد العسكري الرئيسي لنا”. وقد سبق ذلك تزايد الجهود البريطانية لتعزيز العلاقات العسكرية مع بعض دول المنطقة منذ نهاية عام 2012.
ورغم ذلك، فإن البناء على تزايد اهتمام الدول الأوروبية بأزمات منطقة الشرق الأوسط، وما يعنيه ذلك بالنسبة لعلاقاتها مع الولايات المتحدة، يظل بحاجة لمتابعة خلال الفترة المقبلة، لا سيما وأن استقرار هذا التحول في التوجهات الأوروبية يبقى رهنًا بالتطورات التي تشهدها المنطقة.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية
http://goo.gl/LOqLxK