قفزت قضية المساعدات السعودية والخليجية التي حصل عليها لبنان على امتداد عقود طويلة، إلى واجهة الأحداث بعد التطورات المتسارعة التي شهدتها العلاقات بين البلدين والتي انتهت بقرار الرياض وقف مساعدتها المالية لقوى الأمن والجيش في لبنان، تنديداً برضوخ الحكومة اللبنانية لحزب الله، وهيمنة هذا الأخير على القرار السياسي اللبناني، وتعارضه مع المصالح القومية واللبنانية السعودية المشتركة، وبما لا يمكن لا للسعودية، ولا لدول الخليج وسائر الدول العربية، القبول به أو التغاضي عنه.
وكان لافتاً بعد إعلان القرار السعودي، تصدي حزب الله وآلته الإعلامية للتشكيك في حقيقة وأهمية الدعم المالي والاقتصادي السعودي للبنان اقتصاداً ودولةً، منذ اتفاق الطائف، الذي أخرج بيروت من عنق زجاجة الحرب الأهلية المدمرة.
لكنّ المثير حقاً كان إعلان طهران، استعدادها لتعويض المساعدات المالية السعودية، في محاولة لإعادة الروح إلى أسطورة الدعم المالي والاقتصادي الإيراني للبنان من جديد.
100 مليون دولار
وإذا كان حجم المساعدات والمنح والهبات والاستثمارات السعودية في لبنان، مُعطىً ثابتاً ومعروفاً فإن مبادرة إيران الأخيرة عن استعدادها لتعويض المساعدات المخصصة للقوات الأمنية العسكرية والأمنية، يُثير الاهتمام لأكثر من سبب، أولها تواضع الحضور المالي والاقتصادي الإيراني في لبنان، وضآلته على امتداد السنوات الماضية، رغم حرص طهران على دعم مواقعها في بلد الأرز، وثانيها اقتصاره دائماً على بوابة ممثلها الشرعي الوحيد فيه، حزب الله.
وبالحديث عن المساعدة العسكرية الموعودة، يجب التذكير بأنه سبق لطهران التقدم بمثل هذه الوعود، في 2010 مثلاً على خلفية قرار الولايات المتحدة الأمريكية تعليق مساعداتها العسكرية للبنان، بسبب الصدامات المسلحة بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي، لتقترح الحكومة الإيرانية يومها هبةً ماليةً وعسكريةً إلى لبنان، بمبلغ يُعادل 100 مليون دولار، وذلك في الوقت الذي أخذت فيه السعودية على عاقتها مساعدة لبنان، لتمويل احتياجاته من السلاح ومن العتاد الفرنسي، بقيمة 4 مليارات دولار.
علاقات راسخة
يكشف التباين بين الرقمين وحده، حجم وطبيعة العلاقات المالية والاستثمارية بين بيروت بالرياض، التي تستند إلى تاريخ طويل انطلق رسمياً منذ 1953، تاريخ زيارة الرئيس اللبناني الثاني، والأولى من نوعها إلى الرياض، كميل شمعون بعد سنوات من الاستقلال لتنطلق مسيرة طويلة من التعاون بين البلدين، تعمقت بالروابط الاقتصادية ولكن أيضاً الشخصية وحتى العائلية وعلاقات المصاهرة، التي أفرزت للبنان مكانة خاصةً في السعودية مقارنةً بغيره من الدول العربية.
وكان من الطبيعي أن تتعزز هذه العلاقة الوثيقة أكثر، بعد الحرب المدمرة التي عرفها لبنان، والتي وضعت أوزارها في بداية التسعينات، بفضل الجهود الكبيرة التي بذلتها السعودية التي احتضنت الاجتماع التاريخي الذي تمخض عنه اتفاق الطائف، نقطة النهاية العملية لحرب انطلقت في 1975 وكادت تعصف بلبنان وتنهي وجوده عملياً.
70 مليار دولار
وبفضل اتفاق الطائف، وحرصاً على دعم مناعة لبنان الجديد ومساعدته على تجاوز صعوبة فترة النقاهة، كان من الطبيعي أن تلعب السعودية دوراً رائداً في التعافي المالي والاقتصادي اللبناني، لتضخ السعودية في الدورة الاقتصادية اللبنانية بين 1990 و 2015، أكثر من 70 مليار دولار، بشكل مباشر وغير مباشر، بين استثمارات ومساعدات ومنح وهبات، وقروض ميسرة وودائع في البنوك والمصارف.
ويكشف الرقم وحده، التباين الكبير بين المضخة السعودية المالية، والمساومة الإيرانية بتوفير 100 مليون دولار، في مقابل تفاهمات سياسية تسمح لحلفائها بقضم مساحات جديدة من رقعة صناعة القرار اللبناني المتفق عليه منذ الطائف، الأمر الذي يفسر رفض الطبقة السياسية اللبنانية “المنة” الإيرانية يومها، لتواضعها ولتأثير على ميزان القوى السياسي في البلاد، وتهديده لمستقبل لبنان الوطني والعربي.
مساعدات إيرانية
وفي المقابل نشطت إيران بشكل لافت في تمويل “المساعدات الخيرية والإنسانية” خاصةً في مناطق الجنوب اللبناني، على شكل “أغطية ومساعدات غذائية ومعونات إنسانية” وذلك بشكل قار، منذ سنوات، ولكن بعيداً عن الدولة الرسمية وعن طريق حزب الله بشكل شبه حصري.
في المقابل ورغم الصبغة الإعلامية البحتة للدعم الإيراني، فإنه كثيراً ما كان يختفي أو يغيب في المناسبات الكبرى أو الأوقات الحرجة، مثلما كان الأمر أُثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006، أو “محرقة تموز” التي عاشتها مناطق لبنانية عديدة، طالت ضواحي العاصمة بيروت نفسها، بسبب المواجهات بين حزب الله وإسرائيل.
ففي الوقت الذي كانت فيه إيران، تدعم الحزب بالسلاح، ولبناني الضاحية والجنوب ببعض المساعدات الإنسانية البسيطة، أقامت السعودية يومها جسراً إغاثياً تاريخياً قدمت عبره مئات ملايين الدولارات من المساعدات الطبية والإنسانية العاجلة، إضافة إلى الطواقم الطبية، وبادرت فوراً بتحويل وديعة مالية بمبلغ مليار دولار، لا تزال حتى الساعة في خزائن المصرف المركزي اللبناني لمنع انهيار الآلة المالية اللبنانية والليرة.
وفي بيروت انتعشت الحركة المالية والاقتصادية عموماً بعد الحرب والانتكاسات التي شهدتها البلاد، كل مرة بفضل التدفقات المالية السعودية والخليجية، في الوقت الذي اكتفت فيه إيران بالبيانات الصحافية والإعلامية التي ترافق كل زيارة يؤديها مسؤولوها إلى بيروت للإعلان عن نوايا ومشاريع وتعاون لا يرى النور أبداً، ولا يعرف عنها أحد شيئاً.
ولكن عندما يتعلق الأمر بحزب الله مثلاً يختلف الأمر تماماً.
200 مليون دولار لحزب الله
في دراسة لمعهد واشنطن للدراسات في يوليو (تموز) 2015، أشرف عليها الباحث مايكل ايزنشتات، حول التدخلات الإيرانية في كامل المنطقة العربية، قال باحثون إن تدخل إيران في لبنان مالياً مرتبط حصرياً بحزب الله، و”تشكّل إيران الجهة الراعية الرئيسية لحزب الله، فهي تموّل الجماعة بما يصل قيمته إلى نحو 200 مليون دولار سنوياً، بالإضافة إلى الأسلحة، والتدريب، والدعم الاستخباراتي، والمساعدة اللوجستية وأكثر من ذلك”.
مضخة سعودية
وإذا كانت تلك كل حدود ومجالات الدعم المالي الإيراني، فإن الأمر يختلف تماماً عند التعرض إلى الدعم المالي والاقتصادي السعودي، ففي تقرير لها بتاريخ 22 فبراير(ِشباط) 2016، قالت صحيفة الأخبار اللبنانية، الموالية لحزب الله: “تُمثل الودائع غير المُقيمة في لبنان 20 % من إجمالي الودائع، أي ما يقارب 30 مليار دولار، منها ما بين 3 إلى 4 مليارات دولار لمستثمرين سعوديين” أو ما يعادل 10% من الودائع المملوكة لمستثمرين أجانب.
أما على المستوى الاستثماري الخاص، فجاء في التقرير نفسه نقلاً عن خبراء ماليين لبنانيين، أن المستثمرين السعوديين ضخوا في القطاعين العقاري والسياحي بين 2007-2010 استثمارات ضخمة تجاوزت سنوياً 10 مليارات دولار، كما تدفقت في القترة نفسها استثمارات سعودية أخرى على القطاع التجاري ثم القطاع الصناعي، حيث تبلغ الاستثمارات السعودية في لبنان حوالي 6 مليار دولار بين عامي 2004 الى 2015 في هذين المجالين الهامين.
وعلى جانب آخر تُشير أرقام رسمية سعودية إلى أن “عدد المشاريع المشتركة بين البلدين يتجاوز الـ200 مشروع، منها 108 مشاريع في القطاعات الصناعية في المملكة، ويبلغ إسهام الجانب اللبناني فيها نحو 43% من جملة رأس المال المستثمر، والذي يصل إلى 2.4 مليار دولار”.
ووفق أرقام شبه رسمية لبنانية، صادرة عن مجلس الأعمال اللبناني السعودي تحتضن المملكة “250 ألف مقيم لبناني، وتستقبل السعودية 26% من الصادرات اللبنانية إلى المنطقة الخليجية، التي تستحوذ على 50% من إجمالي الصادرات الزراعية والصناعية واللبنانية إلى الخارج، في حين تُشكل دول الخليج مجتمعةً 85% من الاستثمارات الأجنبية في لبنان”.
وبشكل عام تحتضن دول الخليج الست، نصف مليون لبناني، حولوا في 2014 نحو 4 مليارات دولار من السعودية وحدها، و2.5 مليار من باقي دول الخليج، و1.5 مليار دولار من باقي دول العالم.
بضع ملايين
في مقابل التعاون المالي والاقتصادي والتجاري، فضلاً عن مجالات أخرى طالها التعاون بين السعودية ولبنان الذي بلغ حسب تقرير لمركز الدراسات الاقتصادية في غرفة التجارة والصناعة في لبنان، حوالي مليار دولار، لا يتجاوز التبادل بين بيروت وطهران بضع عشرات الملايين.
وقال المركز في تقريره إن قيمة الصادرات اللبنانية إلى السعودية، بلغت في 2014 ما يعادل 377.5 مليون دولار، وبلغت الصادرات اللبنانية إلى إيران في السنة ذاتها 3.2 مليون دولار”.
وفي الوقت الذي وصلت فيه الصادرات السعودية إلى لبنان حسب الدراسة نفسها في 2014، ما يعادل 415.4 مليون دولار، لم يتجاوز حجم الصادرات الإيرانية إلى بيروت 50 مليون دولار.
طفح الكيل
إن المتأمل في العلاقات الثنائية السعودية اللبنانية في ظل “أزمة تجميد المساعدة المالية للجيش والأمن”، يُدرك أن السعودية قررت بعد وضع النقاط على الحروف، رفضها الاستمرار في القبول بالأمر الواقع الذي يفرضه حزب الله على الساحتين الداخلية اللبنانية والعربية.
وإذا كان التعامل مع الحزب مسألة لبنانية صرفة، فإن السعودية وبعد أن طفح بها الكيل، لا يمكنها القبول بسياسة القفز على الواقع وتشويه الحقائق وقلب المعطيات، التي جعل منها الحزب استراتيجية ثابتة في كل تحركاته، والتي ترجمتها قراراته وتحاملاته وتدخلاته الطويلة في المنطقة الخليجية بشكل خاص، ومحاولة هز استقرارها وأمنها، فضلاً عن تخريب العلاقات التاريخية بين لبنان والسعودية رغم كل الجهود التي بذلتها الرياض لحمايتها ودعمها، أو كما قال البيان الصادر عن مجلس الوزراء السعودي، الإثنين، إن السعودية “ترى أن هذه المواقف مؤسفة، وغير مبررة، ولا تنسجم مع العلاقات الأخوية بين البلدين، ولا تراعي مصالحهما، وتتجاهل كل المواقف التاريخية للمملكة الداعمة للبنان خلال الأزمات التي واجهته اقتصادياً وسياسياً”.
إعداد – سليم ضيف الله
نقلا عن موقع 24