ركزت معظم التعقيبات الفورية حول خطة العمل الشاملة المشتركة التي تم توقيعها بين دول 5+1 وإيران في 14 يوليو على تفاصيل الاتفاق بالإضافة إلى أوجه القصور الكثيرة فيه. ومعظم ردود الفعل هذه، سواء المؤيدة أو المعارضة للاتفاق، ركزت على العناصر المتعلقة بالحزمة النووية نفسها.
وناقش عدد من التعليقات بعض جوانب “الصورة الكبيرة” للاتفاق؛ وبشكل أساسي، مدى “مقامرة” الرئيس أوباما على الإمكانية التحويلية المحتملة للاتفاق؛ بمعنى الإمكانية التي سوف تؤدي بإيران في نهاية المطاف إلى إعادة توجيه سياساتها الإقليمية بطريقة تجعل هذه السياسات تتماشى بشكل أفضل مع مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وهناك تعليق مختلف متعلق بـ “الصورة الكبيرة” للاتفاق تم ذكره مرارًا، وهو الذي يتعلق باحتمالية استخدام إيران لمليارات الدولارات المفرج عنها لإثارة فوضى أكبر في المنطقة.
ومع ذلك، فإننا نفتقد حتى الآن تقييمًا للمدى الذي أصبح فيه الاتفاق النووي مع إيران ممكنًا، وربما حتميًا لا مفر منه بالنسبة للولايات المتحدة -منذ أن غيرت إيران من موقفها لتبحث بجدية عن اتفاق-؛ بسبب القوى الكبرى في الخليج. ونفتقد بشكل خاص التغاضي عن مدى كون هذا الاتفاق وتوقيته الحالي يعكس تقدير الولايات المتحدة لبعض الحقائق العالمية والشرق أوسطية للعقد الأول والنصف الأول من القرن الحادي والعشرين. وقد دفعت هذه الحقائق الولايات المتحدة إلى البحث عن اتفاق وقبوله في نهاية المطاف، وهو الأمر الذي لم تكن الولايات المتحدة راغبة حتى في مجرد التفكير فيه على مدار العقد الماضي. بالإضافة إلى التأكد من كون هذه “الحقائق المزعجة” مفيدة؛ لأنها بقدر ما تشرح جوانب معينة من الاتفاق النووي الايراني، فإنها تقدم رؤى أكثر أهمية حول مجموعة الحقائق الأوسع والمسارات الحالية لمنطقة الشرق الأوسط والسياسة الدولية.
والحقيقة الأولى الأكثر أهمية في تلك الحقائق، هي أن غزو العراق في عام 2003 الذي قادته الولايات المتحدة، والتفكيك الكامل لقواتها المسلحة قد ترك إيران كقوة إقليمية كبيرة في الخليج الفارسي؛ مما أزال الحاجز التقليدي بين الخليج والمشرق العربي. وبهذه الطريقة برزت إيران بقدرة ملحوظة على إظهار قوتها في جميع أنحاء المنطقة دون معارضة تُذكر.
ومع عدم وجود من يراجع قدرة إيران بشكل ممنهج على خلق التوترات في المنطقة (باستثناء الجهود المرحلية والخاصة التي قامت بها إسرائيل، والمملكة العربية السعودية، ودول الخليج) أصبح الاعتقاد القائل بأن العقوبات وحدها من شأنها ليس فقط أن تحضر طهران إلى مائدة المفاوضات؛ بل أيضا أن تجعلها تذعن وتقبل بتفكيك مشروعها النووي لا أساس له من الصحة.
والحقيقة الثانية، هي أن انتخاب الرئيس أوباما في عام 2008 على أساس إخراج القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان، وتشجيعه للانخراط الدبلوماسي مع إيران، قد عكس بالفعل الإعياء الأمريكي من الحرب.
وبحلول عام 2015، أصبحت الولايات المتحدة متورطة بشدة في المنطقة، سواء تورط عسكري أو غيره، وعلى مدار ما يقرب من 15 عامًا بتكلفة تبلغ عشرات الآلاف من الضحايا الأمريكيين، وعلى الأقل 2 مليار دولار تم إنفاقها في تكاليف مباشرة وغير مباشرة.
وكانت الآثار المترتبة على ذلك، هي أنه كان من غير الواقعي بدرجة كبيرة أن نتوقع، مع التحرك الإيراني السريع نحو القنبلة، استخدام الولايات المتحدة للقوة، أو حتى التهديد بذلك بقوة لدعم مواقفها التفاوضية، وبالنظر إلى تلك الاحتمالات؛ فقد كان استخدام إسرائيل أو الولايات المتحدة للقوة سوف يؤدي إلى التزام عسكري غير منتهٍ؛ وبالتالي، فإن التأكيدات المتكررة بأن “جميع الخيارات مطروحة على الطاولة” أصبحت خيارًا أقل احتمالًا من أن يتم ممارسته، أو من أن يؤخذ على محمل الجد سواء بواسطة إيران أو بواسطة حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، في حين تبقى أداة التواصل أمر لا غنى عنه وتلتزم به الولايات المتحدة وإسرائيل.
وتتكون الحقيقة الثالثة من السياق الأوسع للحقيقة الثانية، وهي: التشكيك المتزايد حيال مدى جدوى استخدام القوة في القرن الحادي والعشرين. وقد تمت إثارة هذه الشكوك ليس فقط من قبل سلسلة من فشل الولايات المتحدة في تحقيق أهداف سياسية من خلال وسائل عسكرية في العراق وأفغانستان (وبواسطة إسرائيل في كل من لبنان وقطاع غزة)، ولكن أيضًا من خلال الإدراك المتزايد بأن مثل هذا الاستخدام للقوة عادةً ما ينتج عواقب غير مقصودة.
وفي الواقع، كما هو الحال في العراق، يمكن لهذه العواقب أن تكون أكثر سوءًا من التحديات التي أدت إلى استخدام القوة في بادئ الأمر. ومن المثير للاهتمام، أن الرئيس أوباما ليس هو القائد الوحيد الذي يتشارك هذا التشكيك. فيبدو أن بنيامين نتنياهو، بعيدًا عن خطابه الذي لا يمكن أن نلمس فيه هذا الأمر، ولكن بالنظر إلى تصرفاته في جميع المواجهات العسكرية خلال شغله لمنصب رئيس الوزراء، قد زادت عنده تلك الشكوك المتعلقة باستخدام القوة والحساسية تجاه مضارها المحتملة، وهو ما جعله من الناحية التاريخية من بين أكثر القادة الإسرائيليين حذرًا. وكانت النتيجة أن كلًا من أوباما ونتنياهو قد وجدا أنه من الصعب أن يؤدي التهديد بالخيار العسكري إلى نتيجة فعالة في المفاوضات مع إيران.
والحقيقة الرابعة، هي ثورة الطاقة العالمية والزيادة الكبيرة في الاستقلال الأمريكي والإسرائيلي في مجال الطاقة. وبدورها، تعني هذه الحقيقة أن الولايات المتحدة أصبحت للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أقل عرضة بكثير للتأثر بالتطورات السلبية التي تحدث في الشرق الأوسط؛ مما جعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للولايات المتحدة أن تعزم على إطلاق عملية عسكرية حتى ولو كانت محدودة؛ نظرًا للاحتمال البديهي بأن أي ضربة عسكرية يمكن أن تتصاعد لتصبح مشاركة عسكرية أكبر.
الحقيقة الخامسة، بالإضافة إلى القيود المذكورة سابقًا حول نفوذ الولايات المتحدة، تتكون خطة العمل الشاملة المشتركة من رواية وسط بين روايتين تعتمدان على الصدامات الدائمة للحقائق الماضية: أولًا، الرواية الأمريكية التي تعتبر النظام الإسلامي الإيراني الذي يمتلك سجلا من استهداف الأمريكيين بلا رحمة (أحداث السفارة الأمريكية في طهران، ولاحقًا في العراق وأفغانستان ولبنان) ويتصرف بشكل ماكر، ولا يتقيد بالتزاماته السابقة باستمرار. وقد عززت تلك الرواية من تصميم الولايات المتحدة على الإصرار على أن الاتفاق النووي مع إيران سوف يضمن مراقبة دولية وتدابير للتحقق منها. وثانيًا، الرواية الإيرانية ،التي يعود تاريخها إلى إزاحة وكالة الاستخبارات الأمريكية لرئيس الوزراء محمد مصدق في العام 1953، وهي أن الولايات المتحدة لديها نزوع إلى التصرف بأسلوب مخادع وتسعى إلى تغيير النظام في إيران كلما صعد إلى السلطة زعيم غير حليف لها. وقد عززت هذه الرواية من ميل إيران إلى مقاومة تدابير المراقبة والتحقق التي قد تكشف أسرار نظامها. ولهذا السبب أيضًا؛ سعت إيران إلى اتفاق يقيد من حركة الولايات المتحدة ولا يؤدي إلى التطبيع الكامل في العلاقات الثنائية بين البلدين.
سادسًا، تعني هجمات 11 سبتمبر المروعة التي نفذها تنظيم القاعدة (والتي تم تنفيذها بواسطة متطرفين، كثير منهم ولد في السعودية) أن التعصب الإسلامي الشيعي المناهض للولايات المتحدة والذي تم التعامل به مع الغرب منذ الثورة الإيرانية في عام 1979 (والذي تميز برعاية إيران لهجمات حزب الله القاتلة على ثكنات البحرية الأمريكية في بيروت) أصبح الآن أقل تهديدًا من التطرف السني. وقد تم دعم هذه الحقيقة فيما بعد بواسطة فظائع استراتيجة “الصدمة والهلع” التي اعتمدها ونفذها تنظيم الدولة الإسلامية، وتم تنفيذها بدرجة أقل من قبل القوى السنية الأخرى في لبنان وسوريا. وفي الواقع، فقد أدى صعود تنظيم الدولة الإسلامية بالفعل إلى تحول في العلاقات الأمريكية الإيرانية؛ حيث اكتشفت الدولتان أنه في حين أن معظم مصالحهما تظل متضاربة؛ إلا أن بعض مصالحهما تتداخل، مما يعني أن علاقاتهما لم تعد قائمة على أن فوز أحد الأطراف يؤدي بالضرورة إلى خسارة الطرف الآخر.
وأخيًرا، فمع الوقائع الإقليمية التي تزداد تعقيدًا في أعقاب ما يسمى الربيع العربي، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية في الأجزاء المهمة من الشرق الأوسط -بما في ذلك العراق وسوريا وليبيا واليمن (وحتى في شبه جزيرة سيناء)- حيث تسود الفوضى بشكل كبير، لم يعد ممكنًا بالنسبة للولايات المتحدة أن تميز جيدًا بين الأصدقاء والأعداء، أو العثور على “رجال جيدين” بشكل واضح لا اشتباه فيه من بين الأطراف المتحاربة لكي تدعمهم. وهذا يعني أيضًا أنه بالإضافة إلى ثنائيات العلماني-الديني، الشيعي-السني، الجمهورية-الملكية، والانقسامات الأخرى؛ فإن هناك ثنائية أخرى تجتاح منطقة الشرق الأوسط؛ وهي ثنائية بين لاعبي الشطرنج المتمرسين الذين يشاركون في المناورات المعقدة مثل إيران وحلفائها، وبين الآخرين من أمثال الدولة الإسلامية الذين يمارسون القوة الغاشمة بمهارة.
وفي ظل هذه الظروف، لا يمكن للمتسولين أن يكونوا أخيارًا، ووجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى السعي نحو تسوية الخلافات مع الأطراف العاقلة والمتمرسة (حتى إذا ما كانت أحيانًا حازمة وقوية وشائكة) الذين يفهمون ليس فقط في استخدام القوة؛ بل أيضًا محدداتها حتى ولو ضد الخصوم الأكثر وحشية.
وفي الواقع، فإنه من الملاحظ خلال تاريخ الجمهورية الإسلامية الممتد لمدة ستة وثلاثين عامًا، أن الجمهورية الإسلامية لم تغامر ببقائها كما فعل صدام حسين ثلاث مرات: في 1980-1988، وفي 1990-1991، وفي العام 2003.
والأهم من ذلك، أنه بعد هجوم حاد على الولايات المتحدة وإسرائيل في 18 يوليو الجاري، امتنع المرشد الأعلى الإيراني “علي خامنئي” عن الالتزام بأن بلاده ستحارب الدولتين. وبدلًا من ذلك، “فوّض” هذه المهمة إلى الله، معربًا عن أمله في أن الله القدير سوف يفعل ذلك.
وتكمن الآثار المترتبة على تلك الحقائق العالمية والإقليمية الجديدة في أنه على الرغم من الانتقادات الموجهة لأوجه القصور المختلفة في الاتفاقية التي تم التوصل اليها بين دول 5+1 وإيران؛ إلا أن المفاوضين الأمريكيين يستحقون بعض التعاطف. وفي حين أن الاتفاقيات الدولية تعكس عادة الحقائق المهمة؛ إلا أن عدم التوصل إلى حل دبلوماسي للأزمة النووية الإيرانية كان سيكون أمرًا غير مسؤول؛ نظرًا للتحديات غير المسبوقة التي توفرها البيئة الإقليمية المعقدة كما تقدّم ذكره. وبمجرد ما تم الاضطلاع بالجهود بشكل جدي، كان أمرًا حتميًا أن تحدث تنازلات خطيرة، وقد تم التعامل مع هذه المسألة بقدر طبيعتها بالغة الدقة.
التقرير