الأكراد شمال شرق سوريا: حسابات الداخل ومعطيات الخارج

الأكراد شمال شرق سوريا: حسابات الداخل ومعطيات الخارج

20158381210913734_19

مقدمة

يتطلب البحث في واقع المناطق الشمالية والشمالية الشرقية السورية اليوم، خاصة منطقة الجزيرة، إثارة مُعطيَين تاريخيين، الأول: صعود الهويات القومية وأفول الإمبراطورية العثمانية ومسار ترسيم الحدود في المشرق العربي بعد اتفاقية سايكس-بيكو (بين بريطانيا وفرنسا) عام 1916، وما تبع ذلك من تشكُّل الدول الحديثة في المنطقة. والثاني: سياسات حزب البعث عقب استيلائه على السلطة في دمشق وفرضه “التعريب” على الأقليات القومية داخل سوريا، ومحاولته تعديل الديموغرافيا والتسميات الجغرافية في مناطق وجودها.

وفي المُعطى الأول، تجاهلت اتفاقيات رسم الحدود وتشكيل الكيانات السياسية تطلعات قسم كبير من الأكراد لإقامة دولة وطنية، فوَجد هؤلاء أنفسهم موزعين بين إيران الصاهرة لهم في بوتقةٍ عمادُها العنصر الفارسي، وتركيا الكمالية التي واجهتهم بتشدد قومي وبحملات قمع وتتريك، والشمالَين العراقي والسوري حيث عانوا من سياسات تهميش متلاحقة تحولت مع صعود البعث إلى السلطة تباعًا في البلدين إلى سياسات سيطرة مُمنهجة. وهنا يأتي المعطى الثاني في ما يخص الشأن السوري؛ ذلك أن النظام البعثي عمد على مراحل عدَّة بدءًا من أواسط الستينات ثم طيلة الحقبة الأسدية بعد عام 1970 إلى حظر اللغة والهوية الكرديتين واعتماد التعريب في التعليم، وفي مختلف أوجه الحياة العامة في المناطق ذات الأغلبية الكردية، كما عرَّب أسماء بلدات ومدن كانت حتى ذلك الوقت مُحافظةً على أسمائها غير العربية. وعمل نظام الأسد ابتداءً من عام 1974 على إسكان فلاحين عرب، غمرت قراهم بحيرةُ سد الفرات، في قرى ذات أكثرية كردية على الحدود الشمالية الشرقية في محافظة الحسكة ضمن مشروع “الحزام العربي”، مما عُدَّ سعيًا إلى تعديل ديموغرافيا المنطقة المذكورة، وإن كانت نتائج الأمر ظلَّت محدودة(1).

ويُضاف إلى ما ذُكر، أن عشرات الآلاف من الأكراد في سوريا لم يحصلوا على وثائق سورية؛ إذ تمنَّعت السلطات المتعاقبة في دمشق عن منحهم الجنسية، مُدعيةً أن أصولهم تعود إلى جنوب شرق تركيا وأنهم نزحوا إلى سوريا على دفعات خلال عقود الانتداب الفرنسي. وأدَّى مختلف العوامل هذه، ضمن المُعطيين الآنفين، إلى نشوء مظلومية كردية لها سردياتها وخطابها وقواها السياسية. وشكَّلت الساحة التركية، حيث يعيش العدد الأكبر من الأكراد، الحيز الأبرز للكفاحية الكردية في محاولة لانتزاع حقوق ثقافية وسياسية من أنقرة. وتحولت الكفاحية هذه في بعض أوجهها إلى العنف المسلح بعد ظهور “حزب العمال الكردستاني”(2) بزعامة عبد الله أوجلان، أواخر سبعينات القرن الماضي.

نظام الأسد و”حزب العمال الكردستاني”

في الوقت الذي كان نظام حافظ الأسد يفرض سياسات القمع و”التعريب” القسري على الأكراد السوريين، كان يعمد أيضًا إلى تشجيع حليفه في “الجبهة الوطنية التقدمية”، الحزب الشيوعي السوري-جناح خالد بكداش(3)، على استقطاب مجموعات كردية إليه لإبعادها عن منازعة السلطات في دمشق وجعلها تقدم الأيديولوجيا على الانتماء القومي. وابتداءً من أوائل الثمانينات، وبسبب سوء علاقته بالحكم التركي لأسباب عدة منها قضية لواء الإسكندرون(4)، انفتح النظام الأسدي على “حزب العمال الكردستاني”، وسمح له بمعسكرات تدريب في الأراضي اللبنانية التي كان يُسيطر عليها، واستضاف زعيمه أوجلان في العاصمة دمشق ووفَّر له الحماية الأمنية، وسعى إلى توظيف قتاله الجيش التركي من أجل ابتزاز السلطات التركية وإيجاد “ورقة ضغط” عليها تحقق توازنًا سياسيًّا (نسبيًّا) بين دمشق وأنقرة.

واستمرت سياسة “احتضان” الحزب الكردي وزعيمه أوجلان لغاية عام 1998 حين طُلب من الأخير مغادرة الأراضي السورية بعد تهديدات تركية وحشد قوات عسكرية على الحدود؛ فتحسنت بعدها علاقات الأسد بأنقرة ووقَّع البلدان “اتفاقية أضنة” الأمنية (للتعاون في “مكافحة الإرهاب”)، وفتحا صفحة جديدة في علاقاتهما، وعُدِّلت الخريطة الرسمية السورية وأُزيل لواء الإسكندرون لاحقًا منها. وقد وسَّع وجود أوجلان وكوادر حزبه في سوريا لسنوات طويلة وتنظيمهم أنشطةً وشبكاتِ دعم وتضامن في المناطق ذات الأغلبية الكردية شعبيتهم في الأوساط الكردية السورية؛ فصار “حزب العمال” ممثلًا لفئات كثيرة من أكراد سوريا على نحوٍ قرَّبها سياسيًّا من الشرائح المساندة له في تركيا.

ومع انتقال السلطة من الأسد الأب إلى ابنه عام 2000، شهدت المناطق الكردية انعقاد منتديات حاشدة ضمن سياق ما عُرف يومها بـ”ربيع دمشق”. وأثارت تلك المنتديات قضايا سورية عامة مرتبطة بالمطالبة بإنهاء حالة الطوارئ في البلاد (السائدة منذ عام 1963) وإطلاق المعتقلين السياسيين واحترام حرية الرأي والتعبير وإقرار الحق بتأسيس الجمعيات والأحزاب. كما أثارت المنتديات قضايا كردية ترتبط باحترام الثقافة وحقوق المواطنة للأكراد وحصول “غير المجنسين” منهم على أوراقهم الثبوتية السورية. وقد تعامل النظام مع المنتديات الكردية ومع سائر المنتديات في سوريا أمنيًّا، فأقفلها بعد أشهر على ظهورها واعتقل العشرات من منظِّميها.

وفي عام 2004، انتفض ألوف الشبان الأكراد ضد النظام السوري عقب مباراة كرة قدم شهدت شغبًا واستفزازًا لجماهيرهم الكروية ثم اعتداءً وحشيًّا عليهم من قبل القوى الأمنية، ووصلت التظاهرات والاعتصامات الكردية إلى العاصمة دمشق حيث أخمدها النظام بالقتل والاعتقال. وتعددت في عامي 2005 و2006، المبادرات السياسية من قبل أطراف المعارضة السورية وبعض الشخصيات العامة المستقلة، وبينها قوى وشخصيات كردية، وصدر “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي” واعتقل النظام قسمًا كبيرًا من موقِّعيه، ومن ضمنهم ناشطون سياسيون أكراد.

عانى أكراد سوريا مثل الأكثرية العظمى من مواطنيهم السوريين من منظومة القمع والاستبداد والتهميش التي أدار من خلالها حُكم الأسدَين: الأب والابن البلاد. واتخذت معاناتهم طابعًا خاصًا في أحيان كثيرة، مرتبطًا كما ذكرنا بخصوصياتهم الثقافية القومية واللغوية المُستهدفة، وبمحاولات توظيف قضيتهم في إطار الصراع ثم التسوية مع أنقرة. لكن معاناتهم المزدوجة هذه لم تكن استثناءً وحيدًا في السياق السوري؛ إذ إن فئات أخرى عانت مثلهم لانتماءاتها الجهوية (أهل مدينة حماه ومحيطها مثلًا الذين حُرموا من الوظائف والكثير من الخدمات، وتعرض بعض أحياء مدينتهم وعشرات الآلاف من أبنائها للإبادة في فبراير/شباط 1982) أو الأيديولوجية (بعض اليساريين وجمهور واسع من الإسلاميين السوريين ممن نُكِّل بهم وتعرضوا لمجازر ولأحكام بالإعدام أَرْدَت الآلاف منهم خلال عقدي الثمانينات والتسعينات).

المسألة الكردية بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011

أتاح اندلاع الثورة السورية، في مارس/آذار 2011، حرية التعبير السياسي وطرح المواضيع الإشكالية المسكوت عنها داخل سوريا. كما أنه سمح بانطلاق أنشطة شعبية تتخذ من الاعتصامات والمسيرات والتضامن الوطني أشكالًا جديدة للمطالبة بالحرية والعدالة وإسقاط حكم الاستبداد. وقد شارك الشبان الأكراد بفاعلية في المظاهرات والأنشطة الثورية على مدى أشهر. وعرفت مدينتا القامشلي وعامودا تجمعات حاشدة طالبت بإسقاط النظام وتضامنت مع باقي المدن السورية الثائرة، لاسيما درعا وحمص ودوما ثم حماه التي تعرضت لقمع وحشي من قبل قوات الأسد. ولعبت شخصيات كردية بارزة، مثل مشعل تمو(5)، دورًا فاعلًا في قيادة التوجه الكردي المعارض وربطه بالثورة ومواجهة سياسات النظام الهادفة إلى الاستثمار في أي شرخ كردي عربي أو الدفع نحوه.

أدَّى اغتيال تمو في أكتوبر/تشرين الأول 2011 واختطاف وتوقيف عشرات الناشطين الأكراد المعارضين لنظام الأسد، وتنامي ظاهرة العسكرة في صفوف الثورة السورية لمواجهة بطش النظام ثم تحولها إلى كفاح مسلح بعد احتلال الجيش الأسدي لساحات المدن والبلدات منعًا للتجمع والتظاهر فيها واستهداف آلاف المدنيين والناشطين السلميين قتلًا واعتقالًا، إلى خلق واقع سياسي كردي جديد؛ إذ آثر معظم القوى السياسية الكردية، لاسيما “حزب الاتحاد الديمقراطي”(6)، تحييد المناطق الكردية أمام ما أسمته: “النزاع” العسكري الناشب. ومع تصاعد هذا الأخير أواخر عام 2012 وخروج قسم كبير من البلاد عن سيطرة الأسد، أنشأ “حزب الاتحاد” وحلفاؤه “وحدات حماية الشعب” بهدف السيطرة على المناطق ذات الأكثرية الكردية.

تراجع مع الوقت الحراك الثوري في الحسكة وفي مناطق في ريفَي الرقة وحلب، وبدا أن القوى الكردية الرئيسية قررت إعادة التموضع على الخارطة السورية على نحو يسمح لها بالاستفادة من الصدام القائم بين النظام ومعارضيه؛ أولًا: لترنح سطوة النظام على قسم واسع من الأراضي السورية بما يُتيح لها الانتشار في تلك التي تقيم فيها أكثرية كردية؛ وثانيًا: لحاجة جميع الأطراف إلى تجنُّب الصدام بها. فلا النظام المنهك يريد زيادة أعدائه وفتح جبهات جديدة تشغله في مناطق فيها مراكز استراتيجية له (نفط ومطار وقواعد عسكرية)، ولا فصائل المعارضة، من الجيش الحر والكتائب والجبهات الإسلامية، تريد قتال الميليشيات الكردية ودفعها للتحالف مع النظام سواء في داخل مدينة حلب أو في العديد من مناطق السيطرة المتداخلة وطرق الإمداد في الريفين الحلبي والرقاوي.

ورغم بعض المعارك المتفرقة مع جيش النظام ومع الجيش الحر ثم مع الفصائل الإسلامية، إلا أن الصدامات ظلت محدودة وتمكن المقاتلون الأكراد من التحكم بمعظم المناطق ذات الأكثرية الكردية، تاركين جيوبًا وقواعد للنظام من ناحية وممرات لوجستية للمعارضة من ناحية ثانية. ونفذ مقاتلو “وحدات حماية الشعب” حملات اعتقال طالت أكرادًا معارضين لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي”، كما طردوا بعض العائلات العربية والتركمانية المُتهمة بالاستيطان أو بالتعاطف مع خصومهم. (7) لكن في المقابل، يجدر القول إن التهجير الداخلي في سوريا نتيجة قصف النظام للمناطق الخارجة عن سيطرته، في ما عدا المناطق الكردية، أوصل ألاف السوريين العرب إلى هذه المناطق بحثًا عن الأمان. وفي الأمر ما أبقى– تمامًا مثل التهجير الذي حدث من حلب إلى اللاذقية – على الاختلاط المذهبي والقومي موجودًا في العديد من المحافظات السورية.

صعود “تنظيم الدولة الإسلامية” والصدامات الكبرى

أدَّى صعود “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” ابتداءً من ربيع عام 2013، وانتشاره في العديد من مدن وبلدات محافظات دير الزور والرقة وحلب وإدلب إلى اشتباكات متفرقة بين مقاتليه والمقاتلين الأكراد، لم تصل حدود محاولة أي من الطرفين الحسم مع الآخر؛ فمقاتلو “الدولة الإسلامية” كانوا مستغرقين في قتال “الجيش الحر” والفصائل الإسلامية المعارضة واحتلال المناطق التي سبق للأخيرين أن حرَّروها من النظام، فيما كان المقاتلون الأكراد يركِّزون على تثبيت مواقعهم وتجهيز أنفسهم للمرحلة اللاحقة.

وفي يناير/كانون الثاني 2014 أعلن “حزب الاتحاد الديمقراطي” وحلفاؤه في الشمال الشرقي السوري تشكيل حكومة لإدارة المناطق الكردية، وجرى تنظيم العمل الخدماتي والأمني وتطوير الأجهزة السياسية الكردية في ما سُمِّي “غرب كردستان”، وأثار الأمر سجالات حادة بين من اعتبره خطوة نحو “الاستقلال” عن سوريا ومن رأى فيه ترتيبًا مؤقتًا لإدارة مناطق حكم ذاتي كردية. وبدا أن انعدام الثقة بين الأطراف المتساجِلة هو العنصر الأبرز والأبلغ أثرًا سياسيًّا.

واستمرت الأمور على هذا النحو من استتباب للسيطرة الكردية على مدن وبلدات في الحسكة وريفَي الرقة وحلب حتى يونيو/حزيران 2014؛ حيث حصل في ذلك الشهر التطور الدراماتيكي الكبير الذي أطلق الصراع في الشمال والشمال الشرقي السوري؛ إذ أعلن أبو بكر البغدادي زعيم “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” الخلافة في يونيو/حزيران 2014 عقب استيلاء قواته على الموصل في العراق وتقدمها نحو مناطق أُخرى، ثم بدئها حملة لتوسيع مناطق سيطرتها شمال الرقة في سوريا؛ حيث اصطدمت بعنف بـ”وحدات الحماية” الكردية، واحتلت بلدات عديدة كانت تحت سيطرة الأخيرة. وتسبب هجوم تنظيم الدولة في العراق كما في سوريا بتهجير عشرات الآلاف من العراقيين وآلاف السوريين، أكثريتهم من الأكراد.

وأدَّى التوسع السريع لـ”الدولة الإسلامية” وما رافقه من انهيار للجيش العراقي ومن جرائم ضد المدنيين، ثم من إعدام التنظيم لمخطوفين غربيين -صحافيين أميركيين وعامل إغاثة بريطاني- إضافة إلى دخول قواته إلى داخل مدينة كوباني (عين العرب) ذات الأكثرية الكردية شمال محافظة حلب، إلى دفع الولايات المتحدة وعدد من حلفائها الغربيين والعرب إلى التدخل العسكري؛ فشنَّت الطائرات الأميركية والحليفة ابتداءً من سبتمبر/أيلول 2014 مئات الغارات الجوية على مواقع التنظيم الجهادي وعلى حشوده في كوباني وفي معظم مناطق انتشاره (في سوريا والعراق). وسمحت الغارات الجوية للقوات الكردية السورية “وحدات الحماية” بإعادة تنظيم نفسها وشنِّ هجوم مضاد على تنظيم الدولة، مدعومة بمقاتلين من البشمركة القادمين من العراق عبر الأراضي التركية، ومن بضع وحدات من الجيش الحر (رقَّاوية وحلبية الانتماء).

استمرت المعارك الطاحنة بين الطرفين حتى شهر يناير/كانون الثاني 2015، وانتهت بطرد “وحدات حماية الشعب” لـ”تنظيم الدولة” من كوباني والبلدات المحيطة بها. وتواصلت بعد ذلك عمليات الكرِّ والفرِّ مصحوبة بمئات الغارات الأميركية الإضافية المساندة للهجوم الكردي حتى شهر مارس/آذار، ثم استُؤنفت من جديد في شهر مايو/أيار 2015، وأدَّت إلى خسارة “تنظيم الدولة” مدينة تل أبيض وعشرات القرى المحيطة بها. وتلت عملية طرد “تنظيم الدولة” من المنطقة اشتباكات مستمرة حتى اليوم على محاور القتال وحدودها الجديدة، وأفضت هذه العمليات إلى سيطرة كردية على العديد من المعابر بين سوريا وتركيا، وأفضت كذلك إلى تأمين تواصل ترابي بين المناطق التي يسيطر عليها الأكراد السوريون، شمال شرق وشمال البلاد.

ورافق مجملَ الأعمال الحربية منذ صيف عام 2014 لغاية صيف عام 2015، تهجيرٌ ونزوح واسعان نحو الأراضي التركية. ورافقتها أيضًا عمليات إبعاد لعائلات عربية نفَّذتها “وحدات الحماية” الكردية بحجَّة تعامل الأخيرة مع “تنظيم الدولة” أو بحجَّة إقامتها على مقربة من نقاط الاشتباك المباشر الجديدة. وقد تناولت تقارير صحافية هذا الإبعاد القسري لمواطنين عرب (عبر الفضائيات العربية وفي صحيفة “صانداي تايمز”، خاصةً بتاريخي 27 فبراير/شباط و1 يونيو/حزيران 2015). وذكرتها أيضًا تصريحات رسمية أميركية حذَّرت من استمرارها (تصريح جيف راثكي المتحدث باسم الخارجية في 13 يونيو/حزيران 2015)، وأُخرى رسمية تركية على لسان وزير الخارجية ثم على لسان الرئيس أردوغان نفسه الذي اتهم “الغرب” بالتواطؤ مع “حزب العمال الكردستاني” في تنفيذ عمليات الإبعاد هذه التي أوصلت -بحسبه- آلاف النازحين الجدد العرب والتركمان إلى تركيا (تصريحه في 16 يونيو/حزيران 2015)(8).

يمكن القول: إن “وحدات حماية الشعب” استفادت من الدعم الأميركي العسكري واللوجستي لتسيطر على أجزاء مهمة من الشمال والشمال الشرقي السوري، وعكس الأمر حسابات في واشنطن ترى في إقامة شريط كردي متواصل ترابيًّا منطَلقًا لقتال بري ضد “تنظيم الدولة” في سوريا، ولو أدَّى الأمر الى استفزاز أنقرة التي تبدو غير راضية عن الأمر، وغير راضية أصلًا عن المقاربة السياسية الأميركية للأوضاع السورية.

وقد ردَّت تركيا على مجمل التطورات المذكورة بحذر؛ فهي تخشى من آثار الوضع المستجد سوريًّا على أوضاع مناطقها الكردية المقابلة للحدود وعلى استقرارها بعد سيطرة الميليشيات الكردية على معظم المعابر، لكنها في الوقت عينه لا تريد الظهور بمظهر المساند لـ”تنظيم الدولة”. كما أنها تُطالب واشنطن بألا تكتفي بقصف “تنظيم الدولة” جويًّا، بل بتجاوز ذلك وفرض مناطق آمنة في كامل الشمال السوري تحمي المدنيين من طيران نظام الأسد، وتحدُّ من النزوح إلى أراضيها. وتريد كذلك قرارًا أميركيًّا واضحًا يربط “مكافحة الإرهاب” برحيل الأسد، وهذه جميعها مسائل لم تبتُّ واشنطن فيها بعد.

لهذه الأسباب، حشدت أنقرة قوات برية جنوب البلاد، ووضعتها منذ مطلع شهر يوليو/تموز 2015 في حالة تأهب، أمَّا تنفيذها عملية عسكرية خارج الحدود وانتشارها داخل الأراضي السورية، فمرتبط بمجموعة عناصر، منها تشكيل حكومة تركية جديدة، وتطورات الوضع الميداني السوري، والتنسيق مع قطر والمملكة العربية السعودية، وأخيرًا وليس آخرًا مفاوضات أنقرة وواشنطن ربطًا بسوريا وبالاتفاق النووي الأميركي-الإيراني، وغير ذلك من ملفات بالغة الأهمية.

خلاصة

في ما يتجاوز آنية التحولات الميدانية في الأشهر الأخيرة في محافظات الحسكة والرقة وحلب رغم أهميتها وخطورتها، يبدو بحث العلاقات العربية-الكردية سوريًّا مسألة مُلحَّة يُفترض أن يتفق على أسسها المسؤولون الأكراد ونظراؤهم في المعارضات السورية. ويُفترض أيضًا أن يضع هؤلاء أولويات لا تفصل بين مهمتي إسقاط النظام الأسدي المسؤول الأول عن الجرائم الوحشية وعن الخراب الذي أصاب سوريا، والتصدي لـ”تنظيم الدولة الإسلامية” وطرده من الأراضي السورية. وعلى أساس الاتفاق على المهمتين المتكاملتين المذكورتين، يمكن البحث في شكل النظام السياسي المستقبلي للبلاد وضرورة ألا يكون مركزيًّا وأن يتيح شكلًا من أشكال الإدارة الذاتية عبر لا مركزية موسعة، أو صيغة فيدرالية تترافق مع احترام الحقوق الثقافية واللغوية والسياسية لجميع المواطنين؛ ذلك أن دوامات الانتقام وسياسات الثأر والاستناد إلى “المظلومية التاريخية” لتبرير انتهاكات راهنة تؤسس لمظلوميات جديدة ولجولات مقبلة من التشنجات والصراعات، وهذا أسوأ ما قد يُصيب السوريين.
__________________________________

المصادر
1- ياسين الحاج صالح، تعريبان وتكريدان وما شابه، القدس العربي، 27 يونيو/حزيران 2015. وفي المقال يُحيل الكاتب إلى دراسة محمد جمال باروت “التكوُّن الحديث للجزيرة السورية” الصادرة عام 2013 عن “المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات” في الدوحة.
2- تأسَّس الحزب سريًّا في تركيا عام 1978، ودخل ابتداءً من عام 1984 في صراع مسلح مع السلطات التركية، وهو حزب قومي وماركسي، كان هدفه عند التأسيس الكفاح من أجل استقلال كردستان.
3- شهد الحزب الشيوعي السوري مجموعة انشقاقات على خلفية العلاقة بموسكو وموقفها من الصراع العربي-الإسرائيلي، ثم على خلفية العلاقة بنظام الأسد. ومثَّل جناح خالد بكداش الموقف الملتصِق بموسكو والمتحالف مع نظام الأسد، وكانت له قاعدة شعبية كردية مرتبطة ببكداش وعائلته الكردية.
4- دخلت قوات تركية لواء الإسكندرون عام 1938 بتواطؤ فرنسي (كانت سوريا يومها تحت الانتداب)، وجرى عام 1939 تنظيم استفتاء فيه ضُمَّ بموجبه إلى تركيا، وظلَّت دمشق تعد الإسكندرون أرضًا سورية سليبة حتى أواخر التسعينات.
5- مشعل تمو هو أحد السياسيين الأكراد الذين عملوا مع قوى المعارضة السورية قبل الثورة، وسبق أن اعتقله النظام عام 2008 لمدة ثلاث سنوات. ترأَّس تمو “تيار المستقبل الكردي”، وكان عند اغتياله عضوًا في “المجلس الوطني”، الهيئة المعارضة السورية الأوسع تمثيلًا يومها.
6- “حزب الاتحاد الديمقراطي” بزعامة صالح مسلم هو الفصيل السوري المرتبط عضويًّا بـ”حزب العمال الكردستاني” في تركيا.
7- شملت عمليات الطرد هذه عائلات من بلدات في محافظة الحسكة، ولا يوجد تقدير دقيق لأعدادها، وإنما معلومات عامة مستندة إلى تصريحات سياسية صادرة عن هيئات تركمانية، وعن أطراف سياسية سورية وفصائل مسلحة وشهادات جمعها ناشطون حقوقيون وصحافيون في مخيمات النازحين في تركيا.
8- من الواضح وفق هذه التقارير والتصريحات، وما سبقها من شهادات نازحين من نواحي تل أبيض ورأس العين وتل تمر وتل حميس وتل براك وجزعة واليعربية، أن عمليات تهجير قسري جرت لمواطنين عرب (ولآخرين تركمان، بأعداد أقل)، لكن المعلومات التفصيلية قليلة حول الموضوع، ولا يمكن بناءً عليها اعتبار ما جرى “تطهيرًا عرقيًّا”، ولا يمكن بالمقابل التقليل من خطورته ومن تبعاته المستقبلية على العلاقات الكردية-العربية سوريًّا.

زياد ماجد

مركز الجزيرة للدراسات