الباحثة شذى خليل*
في تأكيد على أسباب الوضع المتردي بكل تفاصيله في العراق، وخلق الفوضى بشكل محترف والمحافظة على استمرارها، هو باختصار (( أغرب دستور)) في العالم، وضع ألغاما لا تعد أو تحصى، حسب تأكيد القانونين العراقيين والدوليين المهنيين، مما تسبب في دوامة من الخلافات التي أفضت عليها المحاصصة السياسية طابعا شرعيا ًلوجود تلك الألغام، كان حصاد تلك الديموقراطية مراً، بتشرذم وعي الناس والانخراط بالطائفية، وشيوع الفساد الذي لم يسبق له مثيل، وولادة مجتمع ميليشياوي عوّم الدولة .
يشهد العراق احتجاجات ومظاهرات عارمة ضد الفساد الحكومي والدستور والتدخل الإيراني والأحزاب الدينية الفاسدة والمليشيات، حيث أن عوائد مالية فلكية تجنيها تلك الأطراف منذ سنوات طويلة، على حساب شعب فقير ومؤسسات بدأت بالتصدع والانهيار، ناهيك عن إهدار المال العالم، في بلد يمتلك “ثاني أكبر احتياطيات نفط في العالم”، حيث تم تصنف البلاد في المركز الـ169 من أصل 180 على مؤشر الفساد حسب منظمة الشفافية الدولية، ووصف تقرير منظمة الشفافية الدولية العراق و انتشار الفساد السياسي والاقتصادي والإداري داخل مؤسساته المتنوعة.
كما تؤكد تقارير المنظمة أن حجم المال المنهوب في فترة ما بعد 2003 ، بلغ 300 مليار دولار، وتضيف مصادر عراقية أن نحو 350 مليار دولار أُهدرت وسرقت خلال الأعوام 2003-2014 بمشاريع وهمية وفساد مالي وإداري في البلاد، فضلا عن وجود خمسة آلاف مشروع لم تنفذ بسبب سوء التخطيط، في وقت تمر فيه البلاد بأزمة ديون داخلية وخارجية، حيث انهك الفساد الاقتصاد العراقي رغم كل ما يملكه من ثروات مادية وبشرية .
واشار البنك الدولي صنف العراق كثاني أكثر دولة بالعالم تعاني من تفشي الفساد، فضلاً عن التصنيفات التي تعده واحداً من أكثر الدول سوءاً من ناحية الأعمال التجارية وضعف البيئة الاستثمارية، نظراً للإشكالات العديدة في البنية القانونية والتشريعية وهشاشة الوضع الأمني والأخص الأشهر الماضية.
حجم الفساد المتزايد في العراق خلق أزمات معيشية واقتصادية متتابعة للمواطنين، وأربك اقتصاد بلادهم حتى أصبح بين الأسوأ عالمياً، رغم أن البلاد تملك أكبر احتياطي نفطي بالعالم بعد المملكة العربية السعودية، كما يمثل احتياطي النفط العراقي نحو 10.7% من إجمالي الاحتياطي العالمي.
العراقيون يعانون من البطالة المستفحلة، وضعف الخدمات العامة، والفقر المدقع، الذي معدلاته “الرسمية” بلغت في العام 2019 22.5%، في حين تشير إحصاءات البنك الدولي إلى أن نسبة الفقر تصل إلى 41.2% في المناطق المحررة من تنظيم داعش الارهابي ، و30% بالمناطق الجنوبية، و23% في الوسط، و12.5% في إقليم كردستان، وأضاف البنك الدولي أن 50% من الأطفال فقراء في المحافظات الجنوبية بالعراق.
الملف الاقتصادي والمالي العراقي، والذي سعت الحكومات العراقية المتعاقبة منذ 2003، وبشكل تدريجي إلى تدمير جميع أعمدة الدولة العراقية الاقتصادية والعسكرية والتعليمية والصحية، وهذا صعب تصديقه على الإطلاق، لكن الأرقام والإحصاءات والوثائق والحقائق والمعطيات الموجودة على أرض الواقع تبرهن على ذلك بشكلٍ لا يقبل التشكيك.
وكان للتراجع الكبير في قدرات العراق الصناعية وفي جوانب توفير الطاقة وإهمال البنى التحتية الأساسية الدور الأكبر في فتح باب واسع لإيران في أن تنمي شركاتها الصناعية والإنشائية بشكل غير مسبوق.
دور إيران في تدمير البلد ونهب ثرواته اقتصاديا:
تدخل إيران كشريك أساس في السوق العراقية بعوائد مالية تصل إلى نحو ثلاثين مليار دولار سنويا، وهو مبلغ تجنيه من تصدير منتجاتها إلى العراق ومن إمدادات الطاقة والعقود الإنشائية والاستثمارية التي تستحوذ عليها عبر تسهيلات واستثناءات يقدمها من هم بالحكومة العراقية وولائهم الكامل لها-أي إيران.
وتشير الخبيرة الاقتصادية، سلام سميسم، الى أن التراجع الكبير في القطاع المادي، جعل الاقتصاد العراقي اقتصادا ريعيا ومكشوفا، بمعنى أن يعتمد على شيء واحد وهو النفط، وأن يكون مكشوفا، أي أنه يغطي جميع احتياجاته من خلال الاستيراد ومن ثم هو مكشوف على الاقتصادات الخارجية.
اما في القطاع المالي، تشير تقارير إيرانية وعراقية إلى تقدم كبير في حصة الإيرانيين على حساب حصة العراقيين، من القطاع المالي حيث باتت تمتلك إيران نحو 11 مصرفاً يعمل في العراق بشكل مستقل.
كما اشترت مصارف إيرانية حصة ستة مصارف عراقية أخرى، وبلغ اجمالي الأموال الخاصة بالإيرانيين في تلك المصارف أكثر من سبعين مليار دولار، الأمر الذي يعكس هيمنة إيرانية شبه مطلقة على الاقتصاد العراقي.
قوانين لا تخدم الاقتصاد
الحاكم المدني في العراق في النصف الثاني من 2003، بول بريمر، عمل على تدمير الصناعة والزراعة بإلغائه التعرفة الجمركية، وبعد الضغط ضد هذا الإجراء المجحف بحق البلد في التحصيل الجمركي وفرض السياسة الاقتصادية التي يراها مناسبة للحفاظ على ثرواته، والحفا ظ على صناعاته المحلية، قام بفرض رسم شكلي قدره 5% لإعمار العراق، في حين انتهى استعمال التصاريح الجمركية التي تساعد أجهزة الاحصاء في تدقيق الاستيراد، وبالتالي تحسين درجة الموثوقية في الإحصائيات… هل هذا دمار متعمد للاقتصاد العراقي؟!
وعلى ما يبدو، فقد كان هناك غرضان من هذا الإجراء، عدا الجانب العملي المتمثل بعدم السيطرة على المنافذ الحدودية، سيطرة بعض الأحزاب السياسية والمافيات الاجرامية على الكثير من المنافذ الحدودية، واستغلالهم لإدخال البضائع من دون رقابة و تكلف خزينة الدولة مليارات الدولارات.
وتعتمد المنافذ الحدودية طرق الدفع القديمة والتقييم وأطر العمل البدائية ولا تعتمد على التكنلوجيا الحديثة الدفع الإلكتروني كما تفعل معظم دول العالم للحفاظ على ثرواتها وحماية البلد .
ناهيك عن تزوير الأوراق الرسمية للعديد من البضائع الداخلة، لغرض التهرب الضريبي، حيث ذكرت بعض التقارير أن العراق يخسر 15 ألف دولار في الدقيقة الواحدة بسبب الفساد في المنافذ الحدودية.
إن الإدارة السليمة والكفؤة لهذه المنافذ يمكن ان تحقق أرباحا وايرادات للخزينة الحكومية قد لا تقل عن الإيرادات النفطية.
هذه السياسة اللا مسؤولة أدت إلى تدفق السلع الى السوق العراقية دون ضوابط، مما ادى الى انهيار متسارع بالقدرات الصناعية المحلية والتي كانت قد وهنت كثيراً بسبب الحظر على استيراد قطع غيار آلاتها ومعداتها.
والفساد أدى الى عدم فحص ومراقبة السلع والمواد الداخلة للبلد، والتأكد من صلاحيتها وإمكانية استخدامها البشري، وانها لا تشكل أي خطر على الانسان صحياً او امنياً، ولا التأكد من كمية وجودة البضائع الداخلة للأسواق العراقية، والحد من سياسة الإغراق، والمتمثلة باستيراد كميات كبيرة من سلع معينة وبمواصفات رديئة يكون سعرها منخفض وذات مواصفات رديئة.
وبعيدا كل البعد عن وضع الأسس السليمة لعملية الاستيراد، والتأكد من عدم استيراد أي منتج يمكن انتاجه داخلياً، حفاظاً على الإنتاج المحلي، وتشجيعاً للصناعة العراقية.
هذا الوهن الصناعي أدى الى انهيار القدرات التنافسية، وهيمنة السلع المستوردة على الاسواق، مما أدى إلى تسريح أعداد كبيرة من العاملين في الصناعة ليلتحقوا بأفواج العاطلين عن العمل، او بطوابير الساعين الى الحصول على وظائف حكومية دون انتاج حقيقي في المقابل.
هذا ما ينتجه الفساد بجميع اشكاله، ليس فقط الاقتصادية او السياسية، فالانعكاسات كبيرة على البيئية والحياة الاجتماعية، والسبب الرئيس هو ضعف الدولة وعدم كفاية الانظمة الرقابية، وعدم القدرة على تقدير المخاطر بطريقة صحيحة، وضعف نظم الحوكمة والمعايير الأخلاقية، وعدم تفعيل آليات المساءلة، في ظل تراجع معايير الكفاءة والنزاهة في اختيار شاغلي الوظائف العليا، وانتشار ظاهرة الرشوة عند الشركات لتخليص المعاملات مثل الاستيراد والتصدير وغيرها، ومدى محاسبة المسؤولين الفاسدين التابعين والموالين لإيران..
كل هذه الأسباب وغيرها من أهم عوامل ضعف الدولة ونهب اقتصادها وتدمير مجتمعها.. فماذا ينتظر العراقيون؟!
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية