في مقال لرئيس تحرير موقع “ميدل إيست آي” في لندن، ديفيد هيرست، عنونه بـ “أردوغان وبوتين: نهاية العلاقة”، قال إن في الوقت الذي يعمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على رفع مستوى الرهان يقوم فلاديمير بوتين بحساب ثمن “نجاحه” في سوريا.
وأضاف أن هناك محورين تقليديين عن ضعف السياسة الخارجية الروسية.
الأول عندما تكون روسيا ضعيفة ويتجاهل الغرب مصلحتها القومية. وقد كان هذا علامة العقدين الأولين من حياة الفدرالية الروسية. وبدأ بالحرب في كوسوفو وتوسع حلف الناتو وقرار الولايات المتحدة الخروج من المعاهدة المضادة للصواريخ الباليستية عام 2001 وقرارها الإطاحة بمعمر القذافي. وفي الوقت الذي عبر فيه الرؤساء الأمريكيون عن اهتمامهم بروسيا إلا أنهم ظلوا ينظرون إليها كبلد ضعيف يكافح من أجل فهم خسارته الإمبراطورية السوفييتية. وكان الشعار الواضح في البيت الأبيض “نسمع ما نرى ولكننا سنفعل ما نريد فعله”، إلا أن الخصوصية الأوروبية انتهت بقرار روسيا ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 والدخول في سوريا.
أما منطقة الخطر الثانية فهي عندما تبالغ موسكو في تقدير قوتها ومحاولة فرض إرادتها على البلدان الأخرى، أي عندما تتصرف بغطرسة، مع أنها لطالما اشتكت من تعرضها للظلم. وهو ما يحدث الآن في سوريا. وفي النهاية لا يبقى البندول في مكانه.
لا تركيا ولا روسيا ترغبان في قتال بعضهما البعض داخل سوريا أو عليها. ويركز الخطاب الرسمي في موسكو على منع الصدام.
ويشير هيرست إلى أن محللي السياسة الخارجية الذين تمتعوا بحماية الكرملين لم يعد لهم منفذ بعدما أغلقت الأبواب أمامهم في العقد الماضي. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك تحليل سيرغي كاراغانوف في مجلة “روسيسكايا غازيت” والذي أورد قائمة مما اعتبره “إنجازات رائعة” تحققت خلال العقد الماضي، ضمت: وقف تمدد التحالفات الغربية، قطع الطريق في سوريا على الثورات الملونة المفروضة التي دمرت مناطق بأسرها، اكتساب مواقع تجارية خاصة في الشرق الأوسط، وتحويل الصين إلى حليف وتبديل ميزان القوة مع أوروبا لصالح روسيا.
وفي مقام آخر، وبلهجة لا تتسم بالتشدد ما قاله ديمتري ترنين، مدير مركز كارنيغي في موسكو، الذي نشر تغريدة عبر حسابه في تويتر قائلا: “لا تركيا ولا روسيا ترغبان في قتال بعضهما البعض داخل سوريا أو عليها. ولكن، بينما يركز الخطاب الرسمي في موسكو على منع الصدام، إلا أن المؤسسة العسكرية الروسية تقر بأنه ينبغي توجيه إشارة قوية إلى القوات التركية مفادها بأنها قد تمادت كثيرا”.
وكان ترنين يعني هنا مقتل 34 جنديا تركيا في إدلب. ويعتقد هيرست أن الهجوم الذي ألقى الجيش الروسي مسؤوليته على تركيا بسبب استمرار القصف المدفعي ولأنها لم تخبر الروس مقدما عن أماكن انتشار القوات التركية، يعبر عن قراءة خاطئة من قبل الروس للذهنية التي يفكر بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وكذلك لوضعه السياسي المتزعزع داخل بلاده.
ويشير هيرست إلى علاقة أردوغان وبوتين ويرى أنها كانت مشروطة. وبدأت علاقة “الغرام” عندما سارعت موسكو لتقديم الدعم له بعد الانقلاب الفاشل في تموز (يوليو) 2016 في وقت ترددت فيه واشنطن لتقديم التضامن أو التعاطف معه. ومنذ تلك اللحظة لم يتوان أردوغان في السير مع موسكو، من فتح خط أنابيب تركستريم لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى جنوب أوروبا مرورا بأوكرانيا، إلى شراء صواريخ الدفاع الجوي الروسية إس 400 رغم أن ذلك كلفه خسارة صفقة طائرات الشبح الأمريكية – طالما أن ذلك السير وفر لتركيا ذراعا ضاغطة على واشنطن أو سمح لأردوغان بالتصرف داخل سوريا بحرية أكبر مما لو كان لا يزال متمسكا بالانقياد وراء السياسة الغربية فيها.
وفي سوريا اقتضت العلاقة مقايضات غير مريحة بين الطرفين، حيث اضطر كل جانب بسببها إلى التخلي عن حليف من حلفائه. بالنسبة لروسيا كان حليفها هم الأكراد التابعون إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بينما كان حلفاء أنقرة الذين تخلت عنهم هم السوريون في شرق حلب.
وكانت العلاقة مرشحة لكوارث إنسانية يومية، فمع كل انتصار كانت تحققه قوات النظام السوري كان عدد اللاجئين السوريين في إدلب يتضخم، حتى وصل عددهم الآن إلى ما يقرب من أربعة ملايين لاجئ حشروا في مساحة لا تزيد عن حجم منطقة سمرسيت البريطانية. وتمكن 900.000 منهم حتى الآن من الفرار إلى الجانب التركي من الحدود. ولا شك أن هذه هي أكبر عملية نزوح منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 2011. لكن أوروبا –على الأقل حتى هذه اللحظة– لم تعط الأزمة ما تستحقه من اهتمام.
وبوجود 3.6 ملايين لاجئ سوري داخل تركيا وصعود تيار المعارضة الكمالية التي تمكنت من الاستيلاء على المدينتين الأكبر في البلاد، إسطنبول وأنقرة، في الانتخابات الأخيرة. وهي معارضة لا تعني التعبير صراحة عن عدائها للاجئين. يضاف إلى ذلك ما يعانيه حزبه الإسلامي المحافظ من تصدعات وتشققات بات أردوغان محشورا في الزاوية.
المكالمة الهاتفية التي جرت بين بوتين وأردوغان هذا الأسبوع كانت مثل مبارزة في الصياح.
وفي ضوء هذا لم يكن بإمكانه السماح لبشار الأسد أو بوتين التسبب بموجة جديدة من اللاجئين نحو حدود بلاده. ولم يكن أمامه من مفر سوى التحرك، خاصة بعدما أصبح ما يفعله الأسد باللاجئين تهديدا سياسيا وجوديا موجها ضد أردوغان بوصفه الرئيس التركي.
بالإضافة إلى هذا فهناك ملمح آخر يتعلق بطريقة تفكير أردوغان المهووس بمكانه في تاريخ تركيا بنفس الطريقة التي ينظر فيها بوتين لموقعه في تاريخ روسيا المسيحية الأرثوذكسية أو كما يفكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في موقعه من التاريخ اليهودي.
فلا أحد من هؤلاء القادة يعتبر زعامته للبلاد محكومة بمدة أو وقت وليس عرضة للإرادة الشعبية والانتخابات الحرة. ويرى كل واحد نفسه كمبعوث للعناية الإلهية لتحقيق تطلعات الأمة لا طموحاته الشخصية.
وعندما بدأ الجيش التركي تقدمه نهاية الأسبوع، فوجئ الروس. وبدا واضحا تردد المعلقين الروس على شبكات التلفزة العربية. وحققت الضربات التي وجهها الأتراك لجيش الأسد باستخدام الطائرات المسيرة ثلاثة أهداف: تدمير معمل كيماوي ينتج غاز الكلور، وتدمير مطارين بما في ذلك مطار النيرب غرب حلب، وتدمير عدد كبير من الدبابات وعربات الجنود والمدافع. وأكدت الفعالية العسكرية التركية، خاصة طائراتها المسيرة، ما قاله مدير الموساد يوسي كوهين، العام الماضي، وجاء ضمن تقرير عن اللقاء السري الذي عقد في الرياض. وأخبر فيه كوهين، بحسب ما نقله شهود، ذلك الاجتماع أنه من الممكن احتواء إيران عسكريا إلا أن قدرات تركيا أكبر بكثير، وقال بالحرف الواحد: “قوة إيران هشة، أما التهديد الحقيقي فيأتي من تركيا”.
والنتيجة كما يقول هيرست هي نهاية العلاقة بين أردوغان وبوتين. وقيل إن المكالمة الهاتفية التي جرت بينهما هذا الأسبوع كانت مثل مبارزة في الصياح، حيث قال أردوغان لبوتين إن عليه ألا يقف في طريق قواته، بينما طلب بوتين من أردوغان الخروج من إدلب. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها أي من الرجلين مثل هذه اللغة في مكالمة شخصية تجري بينهما، وهي اللغة التي طالما تركاها للحديث مع رؤساء الدول الغربية.
وبعد ذلك لم تعد وسائل الإعلام التركية تكن احتراما للمسؤولين الروس وحدث نفس الشيء مع المسؤولين الأتراك الذين لم يعودوا يكنوا أي احترام لنظرائهم الروس. ففي السنوات الأخيرة اكتسبت موسكو سمعة بأنها تفي بوعودها، أما الآن فقد تبدد كل ذلك.
وبدا الآن وكأن أنقرة صحت من غفلتها وأن روسيا لم تعد مستعدة للوفاء بالوعود التي قطعتها لتركيا في سوتشي، وهذا يعني أن أردوغان سوف يفاوض من مركز القوة على صفقة أفضل حينما يذهب إلى موسكو.
ويرى الكاتب أن أحدا لا يمكنه التنبؤ بما سيحققه بوتين أو أردوغان. فمع أن الموقف الرسمي الروسي هو العمل على منع المزيد من الصراع إلا أن ما يجري على الأرض في إدلب هو العكس تماما.
ويشير هيرست إلى عامل جديد في الحسابات وهو وجود قوتين إقليميتين تقفان على جانب التضاد من الصراع وبات لديهما الاستعداد لاستخدام القوة وتتوفر لديهما القدرة على ذلك. فلم تعد روسيا القوة الأجنبية الوحيدة التي لديها جيش في شمال سوريا ولديها الاستعداد للقتال.
ويرى الكاتب أن الجبهة السورية ستظل مشتعلة ولا توجد أي فرصة لنهاية الصراع، مهما أعلن بوتين عن أن “المهمة قد أنجزت”. وتستطيع روسيا وتركيا أن تلحق الأذى ببعضهما البعض دون أن يستهدف أحدهما الآخر بشكل مباشر. ولا يزال أردوغان، الذي زادت التحديات أمامه، يصعد من لهجة خطابه، حيث قال يوم الجمعة:
“تخوض تركيا كفاحا تاريخيا ومصيريا من أجل حاضرها ومستقبلها، ونحن نواصل العمل بلا هوادة ليلا ونهارا من أجل تحقيق نصر سيحافظ على مصالح بلدنا وأمتنا وسيتمخض عنه نتائج كبيرة كتلك التي شهدناها قبل مائة عام”، وأضاف: “ندرك أننا إذا تهربنا من النضال في هذه المنطقة الجغرافية التي تعرضت إلى الاحتلال والظلم على مر التاريخ ولم نتمسك بوحدتنا وتضامننا فإننا سندفع أثماناً أكبر بكثير جدا”، في إشارة لنصر كمال أتاتورك على الحلفاء في معركة غاليبولي قبل قرن من الزمن، حينها كانت تركيا تواجه خطر التمزق على أيدي الحلفاء. ويبدو أن أردوغان يفكر بهذه الطريقة في سوريا التي يواجه فيها عددا من الجيوش الأجنبية.
فلو فاز في هذه الجولة فسوف يحقق لتركيا وضعا أقوى ليس على طاولة المفاوضات مع روسيا بل وفي المنطقة بأسرها أيضا. كما سيترك دور تركيا في سوريا على ميزان القوة السني في مواجهة التوسع الإيراني في الأراضي العربية.
لهذا السبب اعتبرت إسرائيل تركيا، حليفها السابق الذي كانت تبيع له الطائرات المسيرة، تهديدا عسكريا أكبر من إيران.
ولهذا السبب اعتبرت إسرائيل تركيا، حليفها السابق الذي كانت تبيع له الطائرات المسيرة، تهديدا عسكريا أكبر من إيران، وخاصة أن تركيا غدت الآن تصنع طائراتها المسيرة بنفسها، ولعل ذلك ما يفسر انتعاش وسائل التواصل الاجتماعي في كل من السعودية ودولة الإمارات بأخبار الخسائر التركية في إدلب. وفيما يجازف أردوغان بالكثير، لا بد أن بوتين هو الآخر يعكف على حساب تكلفة “نجاحاته” في سوريا، والتي تتنامى عاما بعد آخر، في أرض باتت حطاما وقد تبقى كذلك عقودا طويلة قبل أن يعاد تعميرها.
ويقول هيرست إن العسكرية الروسية نجحت في سوريا لأنها لم تواجه قوة عسكرية قادرة على استهداف طائراتها وإسقاطها. أما الآن فقد وجدت تلك القوة، وبات الكثير يعتمد على التنافس بين القوتين. وأخيرا، “أهلا بكم في نظام عالمي جديد “متعدد الأطراف” يخلف المنظومة الغربية ولا يقل هشاشة عنها”.
القدس العربي