“كورونا” يهدّد عرش المارد الصيني

“كورونا” يهدّد عرش المارد الصيني

لم تغادر عبارة “طريق الحرير” الوصفة التجارية التاريخية بين الصين وبقية دول العالم، محطتها الرومانسية، ذلك أن الصين بعكس كل الاقتصادات الدولية الناشئة تعتمد كثيراً في تعاطيها مع العالم من حولها على تراثها الحضاري منذ آلاف السنين. ولم تقتصر الطريق التي تكوّنت من مسلكين بري وبحري، على الربط بين أقاصي وأواسط آسيا وشمال أفريقيا ووسط أوروبا على الحرير وحده وإنما سهّل نقل السلع والأفكار من الشاي الصيني إلى اختراعات مثل الورق والبارود والبوصلة، فضلاً عن المنتجات الثقافية، كما عرفت آسيا بفضله الإسلام. هذا المشروع تهدّده آثار تفشي فيروس “كورونا” التي لن تقتصر على الاقتصاد الصيني في الداخل فقط وإنما على طول امتداده حول العالم من أجل نهضتها الاقتصادية.

الرحلات السبع

عندما اكتشف الصينيون صناعة الحرير قبل 3000 سنة، أتقنوا هذه الصناعة التي أذهلت الناس قديماً، فسعوا إلى اقتنائه بمبادلة وزنه بالأحجار الكريمة، فنشأ طريق الحرير التاريخي وهو الأكثر شهرة في العالم القديم، وقبل 600 عام نزل تشنغ خه، الملّاح الصيني المسلم، بأسطول ضخم من السفن البحرية محمّلاً بكميات كبيرة من الحرير والخزف الصيني والمسك والأدوات النحاسية والحديدية وغيرها من السلع، وذلك في الرحلات السبع إلى المحيط الهندي لممارسة التجارة مع البلدان المطلة على المحيط الهندي وتنمية العلاقات الودية. كانت جزيرة العرب هي المنطقة الرئيسة للتجارة التي قام تشنغ خه بها في المحيط الهندي، كما كان مضيق هرمز إحدى نقاط الارتكاز التجارية الأساسية لأسطوله. يُذكر أنَّ هذا الملاح الصيني زار خلال هذه الرحلات عدداً كبيراً من البلدان العربية، ما نتج منه توافد رُسل البلدان العربية إلى الصين في زيارات متبادلة، كما أدى إلى كسر الجمود الذي أصاب العلاقات الاقتصادية الصينية العربية. ونشر تشنغ خه أسلوب وأدب التعامل الصيني والأفكار الكونفوشيوسية والتقويم ونظام المقاييس والمكاييل والموازين والتكنولوجيا الزراعية وتكنولوجيا الصناعة وتكنولوجيا الحفر المعمارية والطب وتكنولوجيا الملاحة وصناعة السفن.

أطلقت الصين مبادرتها الكبرى لإحياء طريق الحرير القديمة، بعدما طرحها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013. ثم أصدرت الحكومة الصينية وثيقة بعنوان “تطلعات وأعمال حول دفع البناء المشترك للحزام والطريق”. وهي مبادرة بناء الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحرية للقرن الـ 21، وتمتاز بأهمية اقتصادية وتجارية كبيرة، كما تتمتع بأهمية بالغة سياسياً واجتماعياً وثقافياً بالنسبة إلى الدول الواقعة على خطوط طريق الحرير التي تشكّل الدول العربية حلقات مهمة فيها.

ومرَّت الطريق بمراحل سعت الصين خلالها إلى الترويج للتشارك في بناء “الحزام مع الطريق” بينها وبين الدول العربية والأفريقية بشكلٍ خاص، ولعلّ التركيز على هذه الدول التي تمرُّ بها الطريق هو توفُّر المواد الخام التي تحتاجها الصين في نهضتها التنموية الصناعية. وهذا من شأنه أن يحقق الاندماج الاقتصادي على مستوى أعلى بين العالم العربي وشرق وجنوب شرقي آسيا، بما يدفع عملية بناء البنية التحتية والآليات والمؤسسات المبدعة للدول العربية، ويطلق الطاقة الكامنة للطلب المحلي على المستويين الوطني والإقليمي، ويفتح مجالات جديدة للنمو الاقتصادي وزيادة فرص العمل، وبالتالي يعزز القوة الداخلية لنمو الاقتصاد وصموده أمام المخاطر. لذا، فقد تم التوافق بين الصين والدول التي تمر بها طريق الحرير على التشارك في بناء “الحزام مع الطريق” عبر قنوات ثنائية. أما الخطة التي وُضعت لتحقيق الفوائد الاقتصادية والاستراتيجية، واتُّفق عليها في منتدى التعاون العربي الصيني في الخرطوم 20- 21 أبريل (نيسان) 2016، فشملت:

-توسيع التجارة والاستثمار بين الصين والعالم العربي.

-تعزيز التعاون الصيني العربي في مجالات السكك الحديدية والطرق العامة والموانئ والطيران المدني والاتصالات وغيرها، بما يعزز الترابط على مستوى البنية التحتية.

-توسيع التعاون في مجالات جديدة تشمل المالية والطاقة النووية والفضاء وغيرها، بما يعزّز التحول والتطور للتعاون العملي الصيني العربي.

-تعميق التعاون في مجالي النفط والغاز الطبيعي من المجرى الأعلى إلى المجرى الأسفل، وتوسيع التعاون في مجال الطاقة المتجددة وفي مقدمها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرهما، بما يحقق الالتقاء في ما بين خطط الجانبين لتنمية الطاقة على مدى بعيد. وبذل جهود مشتركة لإبقاء القنوات الاستراتيجية للطاقة مفتوحة، بما يضمن الأمن في الإمداد والطلب للطاقة على الساحة الدولية.

-توسيع التواصل في المجالات الثقافية والتعليمية والصحية والرياضية وغيرها من المجالات الإنسانية، وتعزيز التواصل والحوار بين مختلف الحضارات، وتعزيز الفهم المتبادل بين الشعب الصيني والشعوب العربية.

-مضاعفة التبادل التجاري مع الدول العربية إلى 600 مليار دولار خلال السنوات المقبلة من 240 مليار دولار (عام 2016).

-رفع رصيد الاستثمار غير المالي في الدول العربية إلى 60 مليار دولار خلال السنوات الـ 10 المقبلة من 10 مليارات دولار (عام 2016).

-زيادة حجم تجارة الصين مع أفريقيا إلى 400 مليار دولار بحلول عام 2020.

صعود مستمر

وفقاً لصندوق النقد الدولي، فإنَّ الصين تأتي كثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وهذه المكانة التي تشهدها هي بسبب جهودها الصاعدة جنباً إلى جنب مع قوتها الاقتصادية، مستفيدةً من تبديد الولايات المتحدة لزعامتها العالمية بسبب جشع وتعالي نخبها السياسية والاقتصادية ودخولها في عددٍ كبيرٍ من الحروب، خصوصاً في الشرق الأوسط، كما أن الصين حققت نصراً اقتصادياً آخر وهو إدراج عملتها “اليوان” الصيني “الرينمنبي” لتأتي في سلة العملات الاحتياطية في العالم، وكواحدة من العملات العالمية: الدولار الأميركي والين الياباني والجنيه الإسترليني واليورو الأوروبي، وذلك بعد أن استوفت الشروط التي بموجبها أقرها المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، وليس هذا فحسب، وإنما هي مرشحة لأن تحتل المكانة الاقتصادية الأولى في العالم بحلول عام 2025.

وتبدو الصين الآن، على الرغم من كثافتها السكانية العالية بحاجة ماسة إلى زيادة استهلاك سكانها، إذ يمكن للبلد أن يتحول من الاستثمار فقط إلى نموذج اقتصادي قائم على الاستهلاك المحلي للتنمية الاقتصادية. وهذه الحاجة يفرضها الانتعاش الكبير في التنمية الاقتصادية، وقيام الصناعات والإنتاج للتصدير. وبالنسبة إلى الاستهلاك، فإنّ السياسات الاقتصادية الصينية، إضافةً إلى ثقافة الفرد وبعض الإرشادات المتعلقة بالحضارة والقيم الصينية، تحثّ على الاستهلاك حسب الحاجة فقط، ولعلّ هذه عقيدة شرق آسيوية يلمسها العرب في تعاملهم مع الصينيين.

والنفوذ الدولي الذي تسعى إليه الصين هو اقتصادي في المقام الأول برهنت عليه نجاحاتها الاقتصادية الكبيرة، وما تهتم به ويترجم سلوكها هو التعاون الاقتصادي من دون التدخل في الشؤون السياسية للدول إلا بالقدر الذي يدعم السلام والأمن الدوليين.

للأزمة وجوه عدّة

تؤكِّد الأزمة الإنسانية التي تعيشها الصين حالياً بسبب فيروس “كورونا الجديد”، وتأثيرها الذي بدأ يلمسه العالم وتوقعات تفاقمه في الأيام المقبلة، القيمة الكبيرة التي يمثلها الاقتصاد الصيني بالنسبة إلى العالم، على الرغم من أنه لا يمكن التنبؤ بحجم الضرر الاقتصادي المتوقع على الاقتصاد العالمي بشكل عام، والاقتصاد الصيني بشكل خاص، إلاّ أنّ الصين ستواجه تحديات تتمثل في:

-بطء وتيرة الإنتاج حتى بعد استعادة الصين عافيتها عقب السيطرة على أزمة “كورونا”.

-فقدان الثقة في المنتجات الصينية وزيادة الإجراءات الاحترازية الصحية، خصوصاً أنها في خضم عملية بناء الثقة في سمعة وجودة منتجاتها بشكل عام.

-تلاشي مفهوم “النموذج الصيني”، الذي يمثل نتيجة حتمية لتطور عملية التنمية في الصين وجذورها التي تعتد بالثقافة الصينية التقليدية المختلفة عن الغرب، وفي الوقت ذاته تبنيها سياسة الانفتاح التي بدأ تطبيقها دينغ شياو بينغ منذ عام 1978.

ونتج من هذا النموذج الاشتراكي ذي الخصائص الصينية التي تزاوج بين الاشتراكية والرأسمالية، أي تطبيق اقتصاد السوق وزيادة الإنتاج واعتماد التصدير والسماح بتملك الأفراد لوسائل الإنتاج والتنافس التجاري، مع التزام الحزب الشيوعي الصيني باحتكار السلطة وعدم السماح بإحداث تغيير أو انقسام في الأمة الصينية.

النصف الممتلىء من الكأس

وأغلب الظن أن الهبوط الصيني لن يكون خشناً خصوصاً إذا نظرنا إلى النصف الممتلئ من الكأس، وفيه تمكن ملاحظة عدد من الحقائق هي أنه على عكس الاقتصادات المتقدمة الكبرى التي استنفذت معظمها كل مخزونها من السياسة النقدية التقليدية بخفض أسعار الفائدة إلى الصفر، لا تزال الصين تتمتع بوفرة من الحوافز النقدية الاحتياطية في مواجهة الاضطرابات الدورية. ويمكن أن تلجأ الصين لهذا المخزون من دون أن تتوسع مالياً. والملاحظة الأخرى أن الصين أحدثت قدراً كبيراً من الارتباك في الداخل حين وصلت إلى وضعٍ معتاد من النمو، أما دولياً فيتلخص في المحاولات الأميركية لاحتواء هذا الصعود، ما يجعلها بحاجة إلى صدمة حتى تواصل صعودها.

وأخيراً، فإن التطورات العالمية الأخيرة قبل انتشار فيروس “كورونا” في الصين تنطوي على مغزى أكثر عمقاً، ذلك أن أميركا وأوروبا أكبر سوقين لصادرات الصين بدأتا في البحث عن بدائل محلية، وتجفيف منابع العمالة الصينية، وهذا الانحسار في التصدير من الصين إلى هاتين السوقين يمكن أن يكون فرصة للصين لإعادة النظر في جموح الانتشار التسويقي، وهذه المرحلة ستشهد ركوداً تنموياً في البلاد، لكن ما فعلته أخيراً من إنعاش قطاع الخدمات والاعتماد عليه سيكون وجهتها لإنعاش طريق الحرير.

منى عبدالفتاح

اندندت عربي