تحول فيروس كورونا لكارثة كبرى على العالم والاقتصاد العالمي وبالطبع على الإنسان في كل مكان. في حالة الصين أدى التأخر في الإعلان عن الفيروس وسط قناعة المسؤولين بإمكانية احتوائه إلى تفشى الفيروس وانتشاره خارج الصين. لقد قتل الفيروس في الصين ما يقارب 3200 بينما أصاب 90 ألفا. كما أدى استخفاف إيران بالفيروس في بدايات انتشاره في إيران لتفويت فرصة الاحتواء السريع. لقد قتل الوباء في إيران ما يقارب 300 إنسان، بينما أصاب أكثر من ثمانية آلاف. وهذا الوضع يثير الأسئلة عن الدول التي لا تتوفر فيها ضمانات الشفافية و تتأخر في الاستجابة. لكن ماذا عن إيطاليا الديمقراطية التي لديها حكومة منتخبة، كيف أصابها الوباء على هذا المستوى من الانتشار لدرجة أن مناطق كاملة تم عزلها بينما وضعت كل إيطاليا تحت الحجر الصحي؟
لقد توفي في ايطاليا 168 شخصا في يوم واحد، بينما توفي في جميع أنحاء إيطاليا أكثر من 620 شخصا، وتعرض للإصابة أكثر من عشرة آلاف. في العالم كله أنتشر الفيروس لثمانين دولة و قتل أكثر من 4000 وأصيب حتى الان أكثر من 120 ألفا. لكن الأرقام معرضة للارتفاع والعالم كله يقف مذهولا أمام الحدث.
بسبب كورونا ألغت جامعات كل محاضراتها كما حصل مع جامعة هارفارد وعشرات الجامعات الأمريكية التي بدأت بالتدريس «عن بعد» لحين انجلاء الموقف، كما أن مدارس وجامعات في دول شتى وفي دول عربية عدة منها الكويت أغلقت أبوابها لمدة أسبوعين، لكنها لم تستطع معاودة الفتح، وهذا يعني الاستمرار في التمديد بانتظار وضوح الموقف. وفي دول كثيرة سقطت البورصات وانهارت، فالبورصة الأمريكية شهدت أكبر تراجع منذ عقود. عدد من دول الخليج أغلقت أبوابها ومنعت الطيران لعدد ليس صغيرا من الدول، بل أصبح تعبير الحجر الصحي لمدة أسبوعين أمرا طبيعيا بعد الوصول من السفر من دول أنتشر فيها الوباء. هذا وضع لن يتوقف قبل أن يتراجع الفيروس الهجومي، وقبل أن يكتشف العالم علاجا وتطعيما يمنع أنتشاره.
ومع استمرار الفيروس تتضاعف الأضرار على الاقتصاد العالمي بكل الأبعاد. فكورونا يهدد السفر والطيران والشركات والإنتاج ويسهم في أزمة نفطية عالمية بسبب ضعف الطلب والنزاع الجديد بين السعودية وروسيا. وهذا يعني أن العالم سيدخل في حالة كساد لا مفر منها. لهذا سيكون الوضع القادم بالنسبة للطبقات الوسطى وفقراء العالم صعبا للغاية، وهو وضع سيخلق حراكات سياسية واجتماعية جديدة قد تغير الكثير مما هو قائم في العالم.
لن يكون الوضع بعد نهاية أثر هذا الفيروس كالوضع قبل انتشاره. فبقدر ما يشكل فيروس كورونا حدثا مرضيا يجب التصدي له، إلا أنه بنفس الوقت حدث سياسي وجغرافي سياسي سيترك مع مرور الوقت مزيد من التأثيرات التي يصعب التنبؤ بكل أبعادها
لقد ارتبط انتشار فيروس كورونا من جراء وجود أسواق غير منظمة لحيوانات برية شتى في آسيا وفي الصين وفي مقاطعة هونان الصينية حيث يختلط في هذه الأسواق الإنسان بالحيوان بيعا وشراء. في بعض هذه الأماكن تقتل الحيوانات تحضيرا لبيعها للاستهلاك الغذائي، ويبدو أن الانتقال وقع في تلك المسالخ في الصين أثناء تقطيع أوصال أحد الحيوانات. ويبدو أن الفيروس كان كامنا في ذلك الحيوان وانتقل عبر التنفس للجزار الذي كان يهيئه للبيع. كما وصف أحد المعلقين: «هذا انتقام الطبيعة من الإنسان». لقد شكل هذا الحدث على ما يبدو المختبر الأساسي لانتقال الفيروس، حصل هذا في السابق مع نقص المناعة Aids وذلك من خلال القردة، وحصل في فيروسات أخرى مثل إيبولا وسارز، وها هو يقع الآن مع كورونا.
الأخطر في كورونا، كما في ما سبقه من فيروسات قاتلة، أن كورونا أكثر استعدادا للانتشار، وأكثر صعوبة في الاحتواء. في حالة كورونا يوجد مقابل كل مصاب معروف وتم تشخيصه أكثر من مائة شخص غير معلنين ولم يتم تشخيصهم بعد. هذا الفيروس قادر على الفتك بمن هم فوق الستين من العمر، لهذا فهو أخطر فيروس منذ انتشار الانفلونزا الاسبانية التي قتلت أكثر من 50 مليون إنسان في العالم عام 1918 في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وتشير المؤشرات إلى أن ذلك الفيروس انتقل من الحيوان للإنسان في ظل ظروف الحرب. إن انتشار كورونا السريع مثير للخوف، كما أن قدرته على أن يعيش في الجسد لاسبوعين قبل أن يبدأ بالتعبير عن عوارضه في الرئة والتنفس والصداع والحرارة هو الآخر ضاعف المخاوف. إن انتقال الفيروس السريع من إنسان لآخر ومن ملامسة طبيعية كالمصافحة باليد أو ملامسة جدار أو سطح مكتب او مدخل أو سلم أو كرسي الطائرة هو الآخر يعكس طبيعة الفيروس وطرق انتشاره المسيرة والمبسطة.
إن القول بأن السيادة الوطنية هي المسؤولة عن تقرير كيفية تعامل الدول مع البيئة و الطبيعة والحيوانات، وأضيف حقوق الانسان والعدالة، لن يصمد في المدى المتوسط والبعيد، فالمشكلات الكثيرة في العالم لم تعد محلية، وما أن تبدأ محلية إلا وتصبح عالمية تتطلب جهدا جماعيا من قبل المجتمعات والدول والمنظمات العالمية. لقد انتشر المرض بسرعة البرق بسبب حجم التنقل بين حضارات ودول العالم، لهذا فمواجهة الفيروس يتطلب تعاونا دوليا وصيغ قانونية للصحة العالمية تمنع انتقال الفيروسات وتحولها لوباء عالمي.
كورونا سيغير الكثير، وسيضر باقتصاد العالم (في حال استمراره) كما لم يحصل منذ عقود. لن يكون الوضع بعد نهاية أثر هذا الفيروس كالوضع قبل انتشاره. فبقدر ما يشكل فيروس كورونا حدثا مرضيا يجب التصدي له، إلا أنه بنفس الوقت حدث سياسي وجغرافي سياسي سيترك مع مرور الوقت مزيد من التأثيرات التي يصعب التنبؤ بكل أبعادها. بل سيصبح هذا الحدث مجال صراع جديد بين اليمين الذي يسعى للانسحاب من العولمة وغلق الدول وبناء الأسوار والحد من الهجرة والاستثمار في الأمن والسلاح وتعظيم الصراع بين الحضارات والمجتمعات، وبين اليسار الباحث عن عولمة إنسانية وعدالة اجتماعية وتنمية مساءلة واستثمار أكبر في التعليم والبحث والصحة والحفاظ على البيئة والمناخ وفوق كل شيء الاستثمار في الإنسان.
شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي