يسابق مصرف الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) الزمن لإنقاذ أسواق المال وسوق الائتمان الدولي، التي يعتمد عليها النظام المالي العالمي، من الانهيار مثلما حدث في العام 2008. حيث يعاني القطاع المصرفي وسوق الصرف في الوقت الراهن من نقص حاد في العملة الأميركية، كما تجري البنوك التجارية وصناديق الاستثمار والشركات في أميركا وأوروبا وآسيا، عمليات شراء ضخمة للدولار. وهذه الشركات اقترضت بشره شديد منذ أزمة المال العالمية، عبر سندات “اليورو بوند”، أي إصدارات السندات بالدولار.
ومنذ تفجر أزمة فيروس كورونا، تتعرض العديد من المؤسسات المالية والتجارية في الوقت الراهن لضائقة في السيولة بسبب انهيار أسهمها وخسارة أعمالها ، وبالتالي ترغب في ضمان إيفاء التزاماتها المالية وعدم تعرضها للإفلاس في هذه اللحظات الحرجة.
وقدر محللون في شركة “نات ويست ماركتس” البريطانية، حجم الديون التي أخذتها الشركات العالمية بالدولار منذ أزمة المال العالمية في 2008، بنحو 12 ترليون دولار. ويقول محلل العملات بالشركة التابعة لمصرف “نات ويست”، منصور محيي الدين: “هذا حجم ضخم من الديون الدولارية وتحتاج إلى تمويل في الوقت الراهن، والبنوك التجارية تجاهد حالياً للحصول على الدولارات من السوق”.
وكان حجم الفجوة الدولارية التي واجهت البنوك التجارية بأوروبا في أزمة الائتمان في العام 2007 تقدر بنحو 1.2 ترليون دولار، بينما بلغ نقص الدولارات في أنحاء العالم وقتها حوالى 6.5 ترليون دولا. حسب بيانات بنك التسويات الدولية.
وشهد الدولار ارتفاعاً حاداً في أسواق الصرف منذ بداية الأسبوع، رغم خفض الفائدة عليه نقطة كاملة، كما ارتفع الفارق بين العائد على سندات الخزانة قصيرة الأجل وسعر الفائدة بين البنوك إلى نقطة كاملة، حسب مؤشرات “وول ستريت”، وهو أمر غير طبيعي ومقلق لصناع السياسة المالية.
وفي تفسيرهم لارتفاع الدولار، يرى محللون بمصرف “غولدمان ساكس” أن الطلب العالمي القوي على الدولار، ربما سيكون سبباً في الأزمة الثانية التي يخلقها الفيروس “كوفيد 19” فسي عالم المال. ويؤكد المصرف الاستثماري الأميركي في تحليله للأسواق، “أن عمليات الشراء الضخمة هي السبب الرئيسي وراء تراجع أسواق المال وأدوات الاستثمار الأخرى، رغم عمليات التحفيز الترليونية التي يواصل مصرف الاحتياط الفدرالي تنفيذها وبتنسيق مع البنوك المركزية الأخرى”.
في هذا الشأن، قال محلل العملات بمصرف “غولدمان ساكس” زاك باندل، في تعليقات نقلتها صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية: “إن ارتفاع الدولار حالياً في سوق الصرف يعكس الدور الحيوي الذي تلعبه العملة الأميركية في الاقتصاد العالمي والنظام المالي الدولي”. ويمثل الدولار نسبة تفوق 62% من احتياطات البنوك المركزية العالمية، كما أنه العملة الرئيسية في سوق الصرف والاقتراض العالمي.
وفي اطار حماية العالم من أزمة ائتمان جديدة أو “أزمة قروض بالدولار”، ربما يسببها عجز الشركات عن تسديد التزامات ديونها وتشجيع المستثمرين على العودة لشراء الأسهم، استحدث “البنك المركزي الأميركي” أمس الخميس، آلية نقدية جديدة لتوفير السيولة الدولارية لصناديق الاستثمار التي هربت بكثافة من سوق “وول ستريت”. وخصصت الآلية لتوفير السيولة الدولارية لصناديق الاستثمار مباشرة من البنك المركزي، بدلاً من اللجوء للاقتراض من البنوك التجارية عبر عمليات “الاقتراض القصيرة بين البنوك” التي يطلق عليها مصطلح “إنتربانك أوبريشن”. وحسب خبراء “يرمي مصرف الاحتياط الفدرالي عبر هذه الآلية إلى تشجيع صناديق الاستثمار الكبرى التي عادة ما تحفز مشترياتها سوق “وول ستريت”على الاستمرار في شراء الأسهم بدلاً من بيعها للحصول على الدولارات”.
ويقدر بنك التسويات الدولية، في تقرير حديث، أن لدى المصارف التجارية خارج الولايات المتحدة أصولاً دولارية تقدر بنحو 13 ترليون دولار. وبالتالي فإن أي أزمة في توفر الدولارات للبنوك التجارية ستضرب النظام المالي العالمي، ليس في أميركا فحسب ولكن في جميع دول العالم. وذلك ببساطة لأن عجز الشركات عن تسديد الالتزامات المالية وتسوية ديونها سيطلق أزمة إفلاس شبيهة بما حدث في أزمة المال في العام 2008.
وكان عجز “مصرف ليمان برازرس”الاستثماري الأميركي، عن تسوية التزاماته المالية قد أطلق شرارة الأزمة المالية في منتصف العام 2007، إذ إن إفلاس البنك تسبب في “أزمة ثقة بين البنوك”، توقفت معها المصارف التجارية عن إقراض بعضها البعض، ثم تجمد سوق “إنتربانك” كلية، وتبعت ذلك عمليات إفلاس وسط كبريات الشركات الأميركية والعالمية.
وينصح مصرف التسويات الدولية بضرورة حماية العالم من أزمة ائتمان جديدة يطلقها النقص في الدولارات التي تحتاجها البنوك التجارية العالمية من قبل البنك المركزي الأميركي.
كما قدر بنك التسويات حجم النقص في الدولارات التي واجهها العالم في أزمة المال العالمية بنحو 6.5 ترليونات دولار، بينما لدى الشركات العالمية في الوقت الراهن ديوناً دولارية تحتاج لتمويل تقدر بنحو 12 ترليون دولار. وبالتالي، فإن مصرف الاحتياط الفدرالي ربما سيحتاج إلى مزيد من ضخ الدولارات في السوق لمنع انهيار سوق الائتمان العالمي. ويقدر أن لدى البنوك التجارية الأميركية سيولة دولارية تقدر بنحو 1.3 ترليون دولار، حتى سبتمبر/ أيلول الماضي.
ويرى خبراء في تعليقات لصحيفة “وول ستريت جورنال”، أن أسواق المال دخلت المرحلة الثانية من الأزمة المالية، وهي مرحلة النقص في الدولارات المتاحة في السوق الأميركي وأسواق المال العالمية.
ولاحظ هؤلاء أن السبب الرئيسي وراء انهيار سوق “وول ستريت”، يوم الأربعاء، يرجع إلى أن المستثمرين باعوا كل ما يمكن بيعه من أصولهم في السوق للحصول على السيولة. وحسب مؤشرات “وول ستريت”، قفز الفارق بين العائد على سندات الخزينة الأميركية أجل 3 أشهر وبين سعر الفائدة بين البنوك، الذي يطلق عليه مصطلح “تيد ـ Ted” إلى واحد في المائة لأول مرة منذ العام 2009. وهو ما يعني أن هنالك طلباً مرتفعاً على الدولار في الولايات المتحدة وخارجها، خاصة أوروبا وآسيا.
وسبق أن واجه العالم أزمة ائتمان في منتصف العام 2007، وتم حلها عبر التحفيز الكمي وخطوط الائتمان، إلا أن ما يسببه “الفيروس كوفيد 19” أكبر بكثير من تلك الأزمة التي تمكن مصرف الاحتياط الفدرالي الأميركي من حلها عبر فتح خطوط الائتمان المباشرة مع المصارف المركزية في أوروبا وآسيا، وسد النقص في السيولة بالدولار، عبر الاقتراض قصير الأجل مع البنوك المركزية الأوروبية مستخدماً “العمليات التبادلية” غير المحدودة بينه وبين البنوك المركزية التي يطلق عليها اختصاراً “سواب”.
وحتى الآن يستخدم بنك الاحتياط الفدرالي والحكومة الأميركية مجموعة من الآليات، تتمثل في التحفيز المباشر عبر شراء سندات الشركات الكبرى وضخ أموال مباشرة في البنوك عبر “العمليات التبادلية ـ سواب” التي ضخ بموجبها حتى الآن 1.7 ترليون دولار. كما تعمل وزارة الخزانة الأميركية على توفير مساعدات مباشرة للشركات عبر توفير ترليون دولار لهذا الغرض، أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مساء الأربعاء. ولكن خبراء يرون أن البنك المركزي الأميركي ربما يحتاج إلى أكثر من 10 ترليونات دولار أخرى لتهدئة سوق الائتمان.
ولا تقتصر حالياً عمليات بنك الاحتياط الفدرالي على حماية السوق الأميركي للائتمان من الانهيار ولكن كذلك حماية السوق العالمي، خاصة الدول الناشئة التي تفتقر حالياً للدولار. في هذا الشأن، حذر بنك الاستثمار الأميركي “جيه.بي مورغان”، أمس الخميس، من أن التأثير الاقتصادي المعرقل لفيروس كورونا سيدفع الدول الأفقر في العالم، باستثناء الصين، إلى ركود بحلول منتصف العام. وحسب وكالة رويترز، قال البنك “نتوقع الآن ركودا في النصف الأول من 2020 في الأسواق الناشئة، باستثناء الصين، مع تعزيز الاحتواء وانكماش الأسواق المتقدمة”.
ويلاحظ ان أزمة النقص أدت إلى صعود الدولار المتواصل مقابل عملات رئيسية، أمس الخميس. ويتوقع خبراء أن تتواصل عمليات شراء الدولار وارتفاعه خلال هذا الشهر، وإلى أن تهدأ أزمة الفيروس القاتل.
موسى مهدي
العربي الجديد