يذهب البعض إلى أن الأزمة التي يعيشها العالم بسبب وباء كورونا سيكون لها ما بعدها، وأن ثمة متغيرات كبرى سوف يشهدها العالم على كافة الأصعدة، وبخاصة الاقتصادي منها، حيث ينتظر أن يعاد رسم خريطة القوى الاقتصادية على مستوى العالم.
كما ينتظر أن يعاد النظر في النظم والسياسات الاقتصادية، فالثمن هذه المرة، تخطى المال والأسواق والسلع ونمط وعلاقات الإنتاج، وقفز إلى تهديد حياة الناس، مما يعني أن المال لم تعد له قيمة، وأنه فقد فلسفته في ظل الرأسمالية، في كونه غير قادر على حماية حياة الأفراد والمجتمعات.
وثمة تصورات جديدة منتظرة للتركيبة المجتمعية، فتحليل المضمون لتغريدة عالمة البيولوجيا الإسبانية التي انتشرت على الفضاء الإلكتروني مترجمة إلى العربية، يجعلنا أمام إعادة للخريطة الذهنية للقيم في مجتمعات ما بعد كورونا.
فمضمون تغريدة هذه العالمة هو “تمنحون للاعب كرة قدم مليون يورو شهريا ولباحث بيولوجي 1800 يورو وتبحثون عن العلاج الآن، اذهبوا لكريستيانو رونالدو أو ميسى وسيجدان لكم العلاج”.
لقد تعرض الإنسان في القرنين العشرين والحادي والعشرين لمآسي إنسانية، ولكنها كانت تخص أفراد ودول العالم الثالث، وكانت نتيجة حروب وصراعات سياسية، كما حدث في المنطقة العربية من حصار لليبيا والسودان والعراق وفلسطين المحتلة وغزة المحاصرة منذ أكثر من 14 عاما.
ولكن هذه المرة، الحصار والأزمة تلتفّ حول عنق الجميع، والمخاطر تتضاعف، وميزانيات كبيرة ترصد للوقاية والمكافحة، ومليارات بانتظار أن تخرج معامل مراكز البحوث بلقاح أو دواء، من أجل حماية المجتمعات من الفناء أو تكرار أزمة الإنفلونزا الإسبانية في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، والتي راح ضحيتها أكثر من 50 مليون إنسان على مستوى العالم.
دور إنساني للدولة
انهارت نظم التأمين الصحي في بعض البلدان الرأسمالية في مواجهة أزمة كورونا، كما حدث في إيطاليا وإسبانيا ودول أوروبية أخرى، مما دعا البعض للقول إن من الدروس المستفادة من أزمة كورونا أن الرعاية الصحية والاجتماعية ينبغي ألا تترك للقطاع الخاص وأدوات الرأسمالية التي انكشفت عوراتها، وجعلت حياة الإنسان في خطر.
وينتظر البعض أن تعود الدولة لممارسة دور أكبر في تحقيق الرعاية الصحية والاجتماعية، وألا يقتصر الأمر على مجرد الاشتراك، ولكن ينبغي أن يخضع لقواعد احترام قيمة الإنسان، وحقه في العلاج والرعاية الاجتماعية، ولا يرتبط بوضعه المالي.
وبالتالي ينتظر أن يعاد النظر في الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، ليكون على الأقل على قواعد الدولة المتدخلة التي دعا إليها عالم الاقتصاد الإنجليزي جون مينارد كينز عقب أزمة 1929، ولن يكون للدولة الحارسة -التي دعت إليها الليبرالية الجديدة في عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر- أثر.
قد نرى توقفا كبيرا لمشروعات الخصخصة في قطاعات التعليم والصحة، وقد تعود الدولة بقوة لبناء المدارس والجامعات والمستشفيات ومراكز البحوث.
على الرغم من أن تجارب كثير من التجمعات الاقتصادية، تدعي أنها تعتمد في قيمها على المصالح، بعيدا عن العرق أو اللون أو الجنس أو الدين، فإن أزمة كورونا أصابت واحدة من أكبر التجمعات الاقتصادية في مقتل، وهي تجربة الاتحاد الأوروبي.
فينتظر أن تعيد دول حساباتها بشأن التجمعات اقتصادية التي تنتمي إليها، بناء على معاناتها وشعورها بأن التجمعات التي تنتمي إليها، لم تقدم لها الدعم والمساعدة المنتظرة في أزمتها مع كورونا، كما حدث من رئيس وزراء صربيا، وتصرف بعض الأفراد في إيطاليا، حيث انتزعوا علم الاتحاد الأوروبي ووضعوا علم الصين على بعض البنايات، إذ سارت الصين بتقديم مساعدتها لكل من إيطاليا وصربيا، في حين تقاعست دول الاتحاد الأوروبي منشغلة بنفسها.
ونحسب أن التجمعات الاقتصادية ما بعد كورونا، سوف تجمع بين الإنسانية والمصلحة، وأن الجميع سوف يعيدون حساباتهم في ضوء ما تم خلال أزمة كورونا، فالمصالح المادية ليست مقصودة لذاتها، ولكنها تُحتَرم بقدر حفاظها على الإنسان وإفادته.
سارع كل من البنك والصندوق الدوليين -مع بداية الأزمة- برصد مبالغ مالية للدول المنكوبة لمواجهة أزمة كورونا، فرصد الصندوق خمسين مليار دولار، ورصد البنك 12 مليار دولار؛ ولكن العبرة هنا ليست بتقديم الأموال من قبل هذه المؤسسات لمواجهة الأزمة.
فالجميع سيعيدون حساباتهم في السياسات التي التزموا بها اتباعا لسياسات البنك والصندوق الدوليين، وأدت إلى ضعف الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية، وأوجدت مؤسسات هشة، فضلا عن انهيار المؤسسات التعليمية والعلمية ودورانها في فلك الرأسمالية، واحتكارات الشركات المتعددة الجنسية.
لقد أفلتت هذه المؤسسات عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008، حيث كان من أهم المطالب التي طالبت بها الدول النامية والصاعدة: إعادة النظر في دور وسياسات هذه المؤسسات، وانتهى الأمر إلى مجرد وعود، بينما بقي الأمر بعد ذلك على ما هو عليه من سيطرة أميركا وأوروبا على هذه المؤسسات.
لن ينسى العالم ما بدر من الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن سعيه لاحتكار بعض الأمصال التي أعلن عن التوصل إليها في ألمانيا، وسيكون ذلك مقدمة لإعادة النظر في اتفاقية حقوق الملكية الفكرية، والتي أعطت سلطات كبيرة للشركات المتعدية الجنسية والدول المتقدمة في احتكار الدواء، وهي قضية مهمة قد تؤدي إلى انهيار منظمة التجارة العالمية مستقبلا، ما لم تُراعَ فيها قواعد احترام الإنسان وحقه في الدواء، أيا كان موقعه في العالم النامي أو المتقدم.
تجارة عادلة
دفع العالم ثمنا غاليا لسياسة ترامب في الحماية التجارية منذ أكثر من عامين، ولن تكون قضية التجارة العالمية هي معركة الصين وأميركا، ولكن ستكون قضية الدول النامية والصاعدة مع الدول المتقدمة، ليحكم العالم تجارة عادلة -لا تجارة حرة- تحقق فيها الدول النامية والصاعدة عائدا عادلا لصادراتها إلى الدول المتقدمة.
لقد لوحت أميركا وأوروبا للدول النامية عام 1994 بجزرة نقل التكنولوجيا وإلغاء الدعم الزراعي بأميركا وأوروبا، والسماح للصادرات الزراعية من الدول النامية بالدخول إلى الأسواق الأوروبية وأميركا، وعلى هذا الأساس، قبلت الدول النامية عضوية منظمة التجارة.
لقد عللت أميركا وأوروبا تمسكهما بدعم القطاع الزراعي بزعم الآثار الاجتماعية السلبية على المواطن فيهما، وهذه فرصة ليكون الإنسان في أميركا وأوروبا على قدم المساواة في كل شيء، ويكفي نحو ربع قرن من الاستثناء المجحف بحقوق الإنسان.
وقد تشهد فترة ما بعد كورونا انهيار منظمة التجارة العالمية، بسبب ما سينتاب كثيرا من الدول بالاتجاه نحو حماية التجارة، لمعالجة اختلالات اقتصادية واجتماعية، وهو ما يعني المرور بفترة انتقالية ليست قليلة للوصول مرة أخرى إلى نظام عالمي تجاري جديد، يحد من الاحتكارات والقهر، ويحقق التبادل التجاري العادل.
دعوة للاقتصاد الأخلاقي
مجلة التمويل والتنمية التي تصدر عن صندوق النقد الدولي، تضمنت -في عدد مارس/آذار 2019- مقالا مهما بعنوان “استعادة الجانب الأخلاقي للاقتصاد.. ينبغي للاقتصاد أن يعود لجذوره”، خلص فيه كاتبه الخبير الاقتصادي لدى صندوق النقد أنطوني آنيت، إلى توصية مهمة.
وقد قال آنيت في توصيته: “وعلينـا أن نسـتعيد الجانب الأخلاقـي للفكر الاقتصادي، وأن نركز عملية صنع السياسات مجددا علـى مفهـوم المصلحـة العامـة، وأن نعـاود تدريس الأخلاقيات كجزء من برامج الاقتصـاد وإدارة الأعمـال، فقـد نشأ علم الاقتصـاد كفـرع جانبـي للفلسـفة الأخلاقيـة، ويجـب أن يعـود إلى جذوره”.
المصدر : الجزيرة