قبل أعوام قليلة من أزمة 2007 ـ 2008 المالية العالمية المبتدئة بأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، خرج عالم الإجتماع والسياسي اليساري الفيليبيني والدن فلوريس بيللو بكتاب يستشرف فيه عصر «الخروج من العولمة»، والرجعة القهقرى إلى محورية السوق الداخلية في كل بلد، على حساب السوق المعولمة.
بعد انفجار الأزمة العالمية وتسابق الناس إلى الأخذ بأطروحته في الفكاك عن العولمة، استدرك بيللو وكان سبّاقاً إلى الإقرار بأنّ هذا الفكاك تأجّل. فالصين، التي خسر عشرات الملايين من عمّالها وظائفهم ابان أزمة 2008، هي التي تطوّعت وتمكّنت، ولأكثر من عقد، من انقاذ تلك العولمة، وبثّت مقولة «التشبيك الكوني»، التي وجدت ترجمتها المباشرة في احياء طرق الحرير البرّية والبحرية، وفي بروز الزعيم الصيني شي جين بينغ الذي يستجمع منذ 2012 سلطات لم يصل إليها أسلافه على رأس الدولة والحزب والجيش، بمظهر المدافع عن العولمة أمام المنتدى الاقتصادي العالمي، في مقابل نزعة حمائية انطوائية تجاه حركة السوق العالمية ستتنامى في الغرب، وتبلغ مداها مع دونالد ترامب.
مقدار الصحّة في نظرة والدن بيللو ليس بقليل. الصين هي التي أنقذت العولمة طيلة العشرية الماضية. وتماشى ذلك في البدء مع استمرار حاجتها لتطوير القوى المنتجة ولإستيراد المعرفة التكنولوجية، ولأنّها لا تكمل مع أحد في هذه الدنيا، فقد وصلت عملية تطور القوى المنتجة داخل الصين الشعبية إلى لحظة تباطؤ في السنوات الأخيرة، بفعل تقاطع جملة مستويات وعوامل. فتحسن معيشة الصينيين أنفسهم، أدّى إلى ازدياد حصة الطلب الداخلي لإستهلاك السلع على حساب التصدير إلى الخارج الذي يدرّ ربحية أعلى، وأدّى من جهة ثانية إلى تحسن أجور العمال والموظفين في الصين بشكل زاد من كلفة الإنتاج.
وجاءت السياسات الحمائية في الغرب، لا سيّما في أمريكا، وارتفاع كلفة المواد الأولية التي تستوردها الصين، جراء سياسة ترامب أيضاً، وارتفاع كلفة النقل على الصعيد العالمي بشكل عام في السنوات الأخيرة، لتعميق مسار التباطؤ في حركة نمو الإقتصاد الصينيّ. يضاف إلى هذا تراجع الهجرة من الأرياف إلى المدن الكبرى في العشرية الأخيرة بشكل كبير، ووجود سياسة حكومية تلاقي ضغط سكّان المدن في هذا الإتجاه. كما يضاف ارتفاع سلّة الواردات من السلع المنتجة في الغرب التي تسعى إليها البرجوازية الصينية الجديدة. فالصين تصدّر سلعاً «شعبية» إلى كل بلدان العالم، وإلى الغرب بشكل أساسي، أما البرجوازية الصينية فتقبل على السلع «اللوكس» المصنّعة في الغرب.
المفارقة أنّ الصين استطاعت في السنوات الأخيرة التي دخل فيها اقتصادها طور التباطؤ في النمو، أن تنتقل من ساع محموم لاستيراد المعرفة التكنولوجية الغربية بأية وسيلة، وبالقفز على حقوق الملكية الفكرية إلى ناشطة في عالم الإبتكار.
تشابك تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني في الأعوام الثلاثة الأخيرة مع تباطؤ في التبادل السلعي على الصعيد العالمي في نفس الفترة، فشاع الحديث عن «السلوباليزيشن» أو «الحلزنة» كمسار مختلف سواء بسواء عن الركود الواسع بعد أزمة 2008، أو عن عودة الرواج بعد 2012. في المقابل، استطاعت أمريكا، السبّاقة إلى تبني شعار والدن بيلو «من على يمينه» هذه المرة، مع دونالد ترامب، معاودة النمو، بدءاً من تطوير القوى المنتجة والقاعدة الصناعية مجدّداً، طبقاً للرجعة إلى الحمائية، إنما حمائية غير مرفقة بحماية اجتماعية وصحية للقوى المنتجة، بل العكس تماماً، وهو ما كان فاتحة لوهن كبير ستظهّره أزمة الكورونا المتفاقمة حالياً.
ليست هذه الأزمات مجرّد «أزمات دوريّة» أو «عاديّة» ولا هي تسارع للتاريخ باتجاه انهيار الرأسمالية، من تلقائها. الرأسمالية تنتج «حفّاري قبرها»، انما تنتجهم بشكل «مستدام» حتى اشعار آخر
مع تعطيل حال العالم لعرقلة حركة فيروس كورونا، سيسارع صاحب أطروحة «الخروج من العولمة» والدن بيلو مجدّداً إلى مقولته هذه. ويعتبر أنّ ما تأجّل بعد أزمة 2007 ـ 2008 بفعل الدور الصيني في إنعاش العولمة، عاد وفرض نفسه، وأننا عدنا الى لحظة «الخروج من العولمة»، وردّ الاعتبار للأسواق الوطنية على حساب السوق المعولمة، ويأتي بعدها الصراع في كل بلد كيف يستثمر هذا، لتصاعد النزعات اليمينية الشوفينية، أم لظهور بديل ايكولوجي اجتماعي شعبي.
بشكل عام، ينبغي التروي قبل تحديد أثر أزمة الكورونا على حركة الاقتصاد العالمي. فإذا كانت الصين، في تحليل بيللو، هي التي أنقذت العولمة في العشرية الأخيرة، فلا يمكن المصادرة على المرحلة المقبلة. فالسؤال يتّصل بالرأسمالية قبل أن يتّصل بالعولمة. أفلتت الرأسمالية منذ قرن ونيّف من كل الانتظارات المتشائمة حول قدرتها على تطوير القوى المنتجة، ومن كل الأزمات والصدمات التي تمكّنت بالفعل من ايقاف هذا التطوير في مكان بعينه أو في مرحلة بعينه، لتكون النتيجة معاودة تطوّر القوى المنتجة بشروط ووتائر أخرى في مرحلة تالية أو في منطقة أخرى.
والعولمة من حيث هي تنامي السوق المعولمة على حساب الأسواق الوطنية بشكل متعاظم في نهايات القرن العشرين كانت منعطفاً في هذا الإطار، وهي واجهت منذ نهاية الحرب الباردة أزمتين اقتصاديتين كبريين، «الأزمة الآسيوية» عام 1997، كأزمة فائض الإنتاج معطوفة على فوضى المضاربات، والأزمة المالية العالمية 2007-2008 كأزمة تضخّم فقاعة رأس المال المالي في مقابل انكماش تطوّر القوى المنتجة.
ليست هذه الأزمات مجرّد «أزمات دوريّة» أو «عاديّة» ولا هي تسارع للتاريخ بإتجاه انهيار الرأسمالية، بشكل أبوكاليبسي، من تلقائها. الرأسمالية تنتج «حفّاري قبرها»، انما تنتجهم بشكل «مستدام» حتى اشعار آخر. والأمر يتخذ سياقاً محموماً للغاية بمقدار توسّع التواصل والتشابك: فمع العولمة، كل تطوير للقوى المنتجة يطوّر بشكل سريع نسبياً العراقيل والحواجز أمامه، فيكون سريع العطب للغاية. وحتى التدمير الهائل للبيئة والتنوع الحيوي، وما يترتب عليه من سياق «إيكولوجي» لأزمات تطوّر القوى المنتجة على الصعيد العالمي، فإنّ التعكيز عليه وحده للبناء على أنّ الرأسمالية تحفر قبرها من خلال تدميرها للبيئة فيه مقدار كبير من العبث.
العالم الذي يتراجع فيه التنوّع الحيوي سيكون على جانب كبير من البشاعة، لكنّه يمكنه أن يستمرّ أجيالاً مديدة، بل قروناً، ببشاعته المتنامية والمتفاوتة بين الأقاليم تلك. من يمنّي النفس بالفوز على الرأسمالية بـ»نضوب الموارد» يستحضر في سرّه روح مالتوس وليس ماركس.
صحيح أنّه شابت أعمال الأخير تتبعات لمسار التناقضات المتعاظمة في مسار الرأسمالية، إلا أنّ موقفه الفلسفي الثوريّ الأساسي بقي يفصل بين أن تنتج الرأسمالية حفاري قبرها وبين أن تهدي الرأسمالية بالقبور التي تحفرها لنفسها الحرية والسؤدد للقوى المنتجة. «تحرر العمال من صنع العمال أنفسهم»، شعار ماركس في لحظة اطلاق الأممية الأولى ما زالت له راهنية في هذا الصدد: تحرّر قوى العمل والإبتكار، وانعتاق الأجساد والكلمات، يكون من صنع الفاعلين الذاتيين المنتجين أنفسهم، ولا يكون من خلال «يد خفية» تحكم على الرأسمالية بإفناء ذاتها بذاتها.
بالمطلق، الرأسمالية «قادرة إلى ما لا نهاية» على الإستثمار في حفرها قبورها لنفسها. ستكون أقل قدرة بمقدار تنامي حركة التحرر الذاتي لعموم المنتجين المبدعين والمبدعين المنتجين. بدوره، هذا التنامي بات مشروطاً أكثر فأكثر بالتوقف عن انتظار انهيار الرأسمالية عند كل منعطف، ومشروطاً بالتمييز بشكل منهجي بين مناهضة الرأسمالية من موقع السعي، كلّ في نطاقه وبوعي حدوده، لفكّ سيطرة الرأسمال الشاملة على العلاقات الإجتماعية وتفكيك التشابكات المختلفة التي يعقدها الرأسمال مع شتى أنواع الإضطهاد والإستلاب، وبين مناهضة الرأسمالية من موقع ابتغاء الغاء الرأسمال نفسه.
وإذا كان هناك شيء أساسي يمكن تثمينه في مسيرة الصين بعد ماو، منذ زمن دينغ شياو بينغ إلى اليوم، فهي أنّها أقلعت نهائياً عن كل «عقدة» أيديولوجية من الرأسمال نفسه. لا يلغي هذا في المقابل أنّها أبعد ما تكون اليوم عن «تجسيد» مشروع الإنعتاق الذاتي للمنتجين المبدعين.. لكنّ المفارقة هنا أنّ مسار التحرّر الذاتي لقوى العمل والإبداع قوّته هو مشروع «لا يتجسّد» في نهاية التحليل. إنه يأتي ويذهب ثم يأتي. يُراكِم إنما بشكل مركّب. يراكم في حضوره وفي غيابه، ويشبه بهذا المعنى، في نقطة أساسية، هذه العولمة، التي لا تكاد تخرج من نفسها حتى تدخل إليها.
وسام سعادة
القدس العربي