عاصمة الدولة الإسلامية المزدهرة في سرت، ليبيا

عاصمة الدولة الإسلامية المزدهرة في سرت، ليبيا

LibyaISISIslamicStateConvoyRTR49BS8-198x132

في الوقت الذي تَركز الحديث عن الهزيمة التي تكبدها تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» في مدينة درنة في منتصف حزيران/يونيو، كان التنظيم ينمّي أصوله وقدراته ببطء في منطقة سرت الليبية خلال الأشهر القليلة الماضية. وهذا هو المثال الأول الذي يدل على أوجه الشبه الكثيرة جداً بين تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» وبين التنظيم الأم، «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية». فخلافاً للوضع في مدينة درنة – منشأ تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» – لم تبقَ في سرت أي فصائل متمردة تنافسه على السلطة. ويعود ذلك إلى عدة تطورات، بينها الانشقاقات من الجناح الجهادي المحلي لتنظيم «أنصار الشريعة في ليبيا»، والتسويات التي توصل إليها تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» مع القبائل المحلية، وانضمام أنصار الرئيس السابق معمر القذافي من مسقط رأسه في سرت إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» أو رضوخهم لاستيلائه على المنطقة، بطريقة مماثلة لما قام به البعثيون سابقاً في العراق. ونتيجة لذلك، قد تصبح سرت عما قريب عاصمة تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا»، مثلها مثل مدينتي الرقة في سوريا والموصل في العراق.

«أنصار الشريعة في ليبيا» أرسى الأساس في سرت

نظراً لقيام تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» باستيعاب شبكة «أنصار الشريعة في ليبيا» في صفوفه، مقنعاً إياه بتقديم البيعة لزعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي في أواخر خريف 2014، فإن تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» وجد أرضية جاهزة للبناء عليها وتوظيف [نفوذه] في المنطقة. فكانت سرت أول مدينة ينشط فيها تنظيم «أنصار الشريعة في ليبيا» خارج قاعدته في بنغازي، بدءاً من أواخر حزيران/يونيو 2013. فعلى سبيل المثال، نظم «أنصار الشريعة في ليبيا» مسابقة قرآنية خلال شهر رمضان في تموز/يوليو 2013، بالتعاون مع “مكتب الأوقاف” المحلي، وإذاعة «راديو التوحيد»، و”شركة خدمات التنظيف”، و”جامعة سرت”؛ وبعد عام واحد، شارك «أنصار الشريعة في ليبيا» في رعاية مناسبة للـ “دعوة” في رمضان مع «مؤسسة البينة» [الدعوية]. وأظهر هذا الأمر أن تنظيم «أنصار الشريعة في ليبيا» كان يهيئ الأرضية للدخول إلى سرت مسبقاً، وقد أقام علاقات مع فاعلين رئيسيين في المدينة.

ومنذ ذلك الحين، أصبحت سرت القاعدة الثانية لـ «أنصار الشريعة في ليبيا» من حيث كثافة الفعاليات. فقد شارك التنظيم بأنشطة مختلفة من الحوكمة و”الحِسبة” (المساءلة) و”الدعوة” في المنطقة، حتى إن نشاطه امتد في بعض الأحيان إلى مناطق أخرى في خليج السدرة [خليج سرت]  مثل النوفلية وبن جواد. فعلى صعيد الحوكمة، وفّر تنظيم «أنصار الشريعة في ليبيا» دوريات أمنية في أحياء متعددة وفي “جامعة سرت”، وشارك في حل القضايا بين القبائل والعشائر (كانت بعضها من مدينة مصراتة البعيدة)، وأعاد سيارة إسعاف مسروقة إلى مستشفى، ونظم السير، ونظف الطرقات، من بين أمور أخرى. وفي ما يخص “الحسبة” – أي النظام الذي تؤتمن بموجبه أي «دولة» إسلامية في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – نفذ التنظيم عقوبة “التعزير” (وهي مجموعة عقوبات جسدية وغير جسدية يُترك أمر إقرارها للسلطات، بخلاف العقوبات التي حددها القرآن) وصادر المخدرات والسجائر والكحول وأتلفها. كذلك، شارك التنظيم بتوفير خيم للـ “إفطار” وبتوزيع الهدايا على الأطفال خلال شهر رمضان، كما أعطى دروساً حول كيفية الطواف الصحيح حول الكعبة خلال أداء مراسم الحج في مكة، ووزع الذبائح خلال عيد الأضحى، ووفر اللوازم المدرسية عند بداية العام الدراسي، وحوّل العمال الأجانب إلى اعتناق الإسلام، وأقام حملات خيرية لمساعدة العائلات المحتاجة.

وتظهر جميع هذه الأمور أن تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» استفاد من وجود جهاز قوي في سرت عندما بدأ بالدخول إلى المدينة، التي توفر الآن المناخ الملائم لنمو هذا التنظيم في ليبيا.

توسُّع تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» في منطقة سرت

نشأ تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» في مدينة درنة في نيسان/أبريل 2014، عندما كان يطلق على نفسه اسم «مجلس شورى شباب الإسلام». وبعد أن قامت «كتبية شهداء أبو سليم» (التي تضم أعضاء سابقين في «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة») بطرد الجماعة من درنة في منتصف حزيران/يونيو 2015، أصبحت سرت هي الأولوية الأساسية في برنامج التنظيم لبناء الدولة. بيد، كان تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» قد بدأ بالفعل بتكريس وجوده في سرت وفي مدن أخرى رئيسية في المنطقة، منها النوفلية وهراوة. وكان التنظيم قد حاز على دعم من المنشقين عن «أنصار الشريعة في ليبيا» في سرت منذ تشرين الأول/أكتوبر 2014، ولكنه لم ينشط علناً في المدينة حتى أوائل كانون الأول/يناير، وذلك من قاعدته في “مركز مؤتمرات واغادوغو”. وكانت سرت أيضاً هي الموقع الذي أَعدم فيه تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» الرهائن المصريين المسيحيين في منتصف شباط/فبراير والرهائن الإثيوبيين المسيحيين في منتصف نيسان/أبريل.

تقدمت حملة تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» للسيطرة الكاملة على سرت بسرعة في 8 شباط/فبراير 2015، عندما استولى على مدينة النوفلية التي تقع على بعد حوالى تسعين ميلاً (150 كيلومتراً) إلى الشرق. ويبدو أن المنشقين عن «أنصار الشريعة في ليبيا» وفّروا دعماً لوجستياً إلى عناصر «الدولة الإسلامية في ليبيا» لدخول المدينة؛ وبعد تأمين النوفلية، دعا تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» سكان المدينة إلى تقديم “البيعة” إلى أبو بكر البغدادي، وعين علي القرقعي (الذي يعرف أيضا باسم أبو همام الليبي) زعيماً جديداً في النوفلية. ونتيجة لذلك، اكتسبت الجماعة أول قاعدة فعلية لها في منطقة سرت ككل. ومنذ ذلك الحين، ركز التنظيم على أنشطة متعددة في النوفلية، فأقام منتديات للتواصل مع السكان، وأتلف السجائر والكحول ومخازن مليئة بما يعتبرها تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» «مواد للشعوذة»، كما وزع منشورات للـ “دعوة” وتدريب المجندين الجدد.

وبعد أسبوع من السيطرة على النوفلية، بدأ تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» يتخذ خطوات أكثر جرأة في مدينة سرت، باستيلائه على محطة الإذاعة، واستوديو قناة «ليبيا الوطنية» التلفزيونية، ومركز الهجرة، و”مستشفى ابن سينا”، و”جامعة سرت”، والمباني الحكومية المحلية. وبحلول ذلك الوقت، كان التنظيم قد سيطر على أكثر من نصف المدينة وعين قائداً محلياً، هو أسامة كرامة، نسيب أحد ضباط المخابرات السابقين في نظام القذافي. ودفع ذلك بـ “الكتيبة 166” التابعة لقوات «فجر ليبيا» المصراتية إلى إطلاق حملة مضادة تهدف إلى استعادة السيطرة على سرت، إلا أن تلك الجهود باءت بالفشل لأن الكثير من القادة في مصراتة كانوا يشككون في ذلك الوقت في تسلل تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» فعلاً إلى سرت، وكانوا يرون أن الأولوية هي محاربة الفريق أول خليفة حفتر في الشرق. وفي أواخر أيار/مايو، سيطر التنظيم على قاعدة القرضابية الجوية وعلى مشروع «النهر الصناعي العظيم» للري؛ ثم في 9 حزيران/يونيو، استولى التنظيم على محطة توليد الكهرباء في سرت، الأمر الذي منحه سيطرة كاملة على المدينة. وبعد ذلك، بدأت عناصر «الدولة الإسلامية في ليبيا» بنهب منازل السياسيين المحليين وتدميرها.

وبعد ذلك بأسبوع، سيطر تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» على قرية هراوة، الواقعة في منتصف الطريق بين سرت والنوفلية. وقد عززت هذه الخطوة سيطرة التنظيم على رقعة من الأراضي يبلغ طولها حوالي 125 ميل (200 كيلومتر). ولم تظهر حتى الآن بوادر تذكر عن بدء التنظيم بممارسة أنشطة الحوكمة في هراوة، مركزاً عوضاً عن ذلك على توزيع منشورات “الدعوة” والأقراص المدمجة، وإتلاف السجائر وغيرها من المواد التي يعتبر التنظيم أنها “محرمة”، وعلى توزيع “زكاة الفطر” (للفقراء في نهاية شهر رمضان)، كما زعم أنه حرر عدداً من السجناء المصريين المسلمين الذين اختطفهم قطاع طرق «فاسدون»، وألقى القبض في إحدى الحالات على لص.

كذلك، سيطر تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» على مناطق أخرى كالوشكة (على بعد خمسة وستين ميلاً – 104 كيلومتراً – غرب مدينة سرت) ووادي زمزم (105 ميلاً – 168 كيلومتراً – إلى الغرب). وتمتد البلدة الأخيرة إلى داخل منطقة مصراتة، الأمر الذي ينبئ بأن نطاق القتال بين التنظيم وفصائل مصراتة قد يتوسع – علماً أن هذه الأخيرة لم تطلق حتى الآن سوى تهديدات فارغة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا».

بناء الدولة في مدينة سرت

منذ حزيران/يونيو، أصبح تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» أكثر تمرساً في عملياته في سرت، وحتى متخطياً جهوده السابقة في درنة، ويعود ذلك إلى غياب أي منافس له في سرت. فقبل حزيران/يونيو، كانت أنشطة التنظيم تقتصر على “الدعوة” و”الحسبة” كـ : توزيع المنشورات، وإقامة المنتديات، وتحويل المسيحيين إلى اعتناق الإسلام، وتطبيق “التعازير” و”الحدود” (تنفيذ عقوبات على ارتكاب جرائم ضد الله، تستند على القرآن والأحاديث النبوية، مثل الجلد والرجم، والبتر، والإعدام)، وهدم الضرائح، وغيرها من الأنشطة المذكورة أعلاه.

ولكن بعد هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» في درنة وتوسع نفوذه في سرت، توجه الكثير من عناصره غرباً للمساعدة في تعزيز جهود السيطرة والحوكمة هناك. ورغم أنه ما زال يمارس أنشطة “الدعوة” و”الحسبة”، إلا أن التنظيم دخل الآن في طور بناء الدولة – حيث يريد أن يثبت للسكان أن الحياة مستمرة وأن وجوده في المنطقة أمّن لهم الحياة الطبيعية والاستقرار. وقد مارس تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» جهوداً مماثلة الخريف الماضي في العراق وسوريا، حيث رفعت عناصره أعلام التنظيم السوداء بفخر على أعمدة الكهرباء، كما نصبت لوحات للـ “دعوة” في جميع أرجاء المدن، وقامت بجولات في مختلف المصانع، وسلطت الضوء على مشاريع التنظيم العامة، ونشرت صوراً تظهر جمال الحياة والهدوء في ما يُسمى بدولة «الخلافة». وبالمثل، أظهرت عناصر «الدولة الإسلامية في ليبيا» في مدينة سرت تبجحاً بصور للمدينة وبمرفأ سرت وبالأسواق المكتظة ومتاجر البقالة المليئة بالمنتجات. وزينت أيضاً مدخل المدينة بأعلام التنظيم، ورفعت لافتات للـ “دعوة” ونظفت الشوارع وزينتها، ومنحت “الزكاة” للمحتاجين، وزارت مستشفى ابن سينا، وأجرت جولات في مصانع القرميد والألومنيوم والرخام والحليب المحلية.

ومن بين أوجه الشبه مع العراق وسوريا أيضاً، نشرت عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» مقاطع فيديو تحت راية «ولاية طرابلس» التابعة لما يُسمى بـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، والتي تضم شمال غرب ليبيا، بهدف دعوة الأفراد للانضمام إلى صفوف التنظيم. وفي أواخر كانون الثاني/يناير، دعا أبو عمر الطوارقي زملاءه الطوارق للانضمام إلى التنظيم وتقديم “البيعة” إلى أبو بكر البغدادي. وفي أواخر نيسان/أبريل، قال أبو محمد الأنصاري: «تعالوا إلى ليبيا. قلوبنا ومنازلنا مفتوحة لكم». وفي أوائل حزيران/يونيو، حث أبو دجانة السوداني المجندين المحتملين على الهجرة إلى «الدولة الإسلامية في ليبيا». وخلال الشهر الماضي، كرر أبو حمزة المصري هذه الدعوات، طالباً من علماء القانون تحديداً القدوم إلى ليبيا لمساعدة التنظيم على تطبيق الشريعة.

الخاتمة

بفضل سيطرته على سرت، اكتسب تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» قاعدة أكثر ثباتاً من محاولاته الفاشلة في درنة، وأنشأ عاصمته الأولى خارج سوريا والعراق. يبقى أن نرى إذا كان ذلك سيؤدي إلى سيطرة التنظيم على المزيد من الأراضي، لا سيما وأن العداوات ومناطق السيطرة كثيرة ومتشابكة بين العديد من الفصائل في ليبيا. ولكن تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» سيكتسب قوة هائلة إذا تمكن من ربط أراضيه في منطقة سرت بمنطقة الجفارة وسط البلاد، علماً أن الأخيرة تتضمن حقل المبروك النفطي ومدينة ودان، التي تشكل خط إمداد أساسي لقوات «فجر ليبيا» بين منطقتي مصراته وسبها، وتقاطع طرق محوري للكثير من الشبكات الإجرامية التي يأمل تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» بالسيطرة عليها. ويحاول التنظيم أيضاً دمج المزيد من القبائل التي كانت موالية للقذافي في منطقة فزان جنوباً.

وفي الوقت نفسه، دفع التماسك في صفوف تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» بتنظيم «أنصار الشريعة في ليبيا» – الذي ما زال يعمل بشكل مستقل في بنغازي، وبقدر أقل في مدينتي أجدابيا ودرنة – إلى التركيز بصورة أكثر على توفير الخدمات، وتطبيق العدالة، وفرض الأمن. وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب ضروس بين التنظيمين الجهاديين المتنافسين في نهاية المطاف. ومهما كان الحال، من المهم أن يدرك صناع السياسة في الولايات المتحدة وغيرهم من الأطراف أنه على الرغم من خسارة تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا» بالفعل في درنة، إلا أنه برز بشكل أقوى في سرت.

هارون ي. زيلين

معهد واشنطن