سألت نفسي لماذا ينجر كثير منا لمعارك طواحين الهواء ويبتعدون عن تقييم تراث الآخرين وتجاربهم التاريخية الاجتماعية والسياسية، ومتابعة الظواهر التي تشد الملأ وتملأ الدنيا وتشغل الناس؟
ليست هذه دعوة للأخذ بها، إنما لفحصها وفهمها، والتعرف على المناسب منها وتجنب الضار فيها، وذلك قد يُبعد أولي الأمر عن الارتجال والعمى السياسي؛ كي لا نبقى بلا أصدقاء ودون أنصار، ونخفف من الأثر السلبي للأعمال الدعائية والمبالغات اللفظية؛ على أمل تَغَير الحال إلى الأفضل، والخروج من أزماتنا سالمين أو بأقل الخسائر.
وأجج فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19) حروبا نفسية ومعارك دعائية تتجاوز القدرة على التحمل، واختيرت الصين هدفا صُوِّبت إليه كل أسلحة الدمار الإعلامي والنفسي الشامل؛ من طرف الإدارة الأمريكية وأدواتها البشرية والإلكترونية وذلك خوفا وهلعا من زحزحتها عن مكانتها في قيادة العالم، ولو كان رأس الإدارة الأمريكية ومساعديه، من الراشدين لقدموا للعالم بضاعة غير القواعد العسكرية والنووية وتوقفوا عن العقوبات بأشكالها، والدمار بأنواعه، والموت بألوانه، لو قدموا بضاعة أكثر فائدة لاستمروا في مكانتهم، وصاروا جديرين بها.
ولأن دور الصين لم يعد قاصرا على مجالها الحيوي الآسيوي، واتسع ليشمل العالم كله تقريبا، وتستهدفها الأسلحة على اختلافها؛ ناعمة وخشنة وجرثومية ومدمرة، وهذا الموقف العدائي يجد المؤازرة من دول أوروبية، وغير أوروبية، ودول عربية وإسلامية (طائفية ومذهبية وانعزالية)، وأخرى إفريقية وعالمثالثية.
وضمن هذا السياق فإن الأمر يحتاج تفاصيل حول الصين في هذه المرحلة؛ بعد أن وجدت نفسها هدفا محددا وواضحا في لعبة الأمم، التي تديرها الإدارة الأمريكية، ومن الصعب تناول ذلك بمعزل عن آثار ترسبت من سلالات حاكمة ست تعاقبت على مدى تاريخ صيني طويل؛ سابق ولاحق لاكتشاف الشاي؛ منذ أكثر من ألفين وسبعمئة عام قبل الميلاد، وصناعة أول طائرة ورقية في القرن الخامس قبل الميلاد، وازدهار أهم وأشهر المنتج القديم، وهو الحرير قبل أكثر من ألفي عام، واختراع الورق من منتصف العقد الأول من الألفية الميلادية الأولى، وهو في تطور، وما زال مُستخدَما حتى الآن.
ومنذ أن وفدت البوذية من الهند في عهد متأخر من حكم سلالة «هان»، وهي السلالة الثانية من السلالات الست، وتولت حكم الصين لأكثر 400 عام (من 206 ق.م. حتى 220 م)، ومنذ دخولها امتزجت بالتراث والثقافة واستقرت فلسفة وعقيدة صينية؛
وحل القرن العشرون فتسارعت الأحداث، واحتدم الصراع، وتفاقم الاستغلال وبالَغ الوجود الاستعماري البريطاني في فرض قبضته، فاتسعت الانتفاضات المسلحة عامي 1911 و1912، وأسقطت آخر أباطرة سلالة المانشو، وقامت جمهورية الصين؛ بقيادة صُن يات صِن، لكنها وقعت في قبضة امراء الحرب المحليين، وتحت نير الغزو الياباني من 1931 حتى 1945، ونظامه العسكري الفاشي، الذي خضعت له مساحات شاسعة من البلاد.
أجج فيروس كورونا المستجد (كوفيد ـ 19) حروبا نفسية ومعارك دعائية تتجاوز القدرة على التحمل، واختيرت الصين هدفا صُوِّبت إليه كل أسلحة الدمار الإعلامي والنفسي الشامل
وبزغ نجم ماو تسي تونغ، الذي نشأ متمردا على التقاليد من الصغر، ورفض العمل في مهنة والده الفلاح، وترك منزل الأسرة في سن الثالثة عشرة؛ والتحق بمدرسة اولية عام 1911، وبعدها سافر لعاصمة الاقليم بحثا عن مدرسة أعلى، ووقتها كانت ثورة صن يات صن في أوجها، فانضم للجيش الثوري، ثم تركه بعد ستة اشهر، وعاد الى تشانغشا؛ ليتخرج من مدرسة المعلمين سنة 1918، واشتغل بالتدريس، وسافر لبكين ليلتحق بالجامعة، وحالت ظروفه المادية الضيقة دون ذلك، فتقدم للدراسة المسائية، بجانب عمله في مكتبة الجامعة لمدة قصيرة رجع بعدها الى نشانغشا وعمل بمهنة التدريس.
وما بين 1920 و1921، كان ماو يتواصل بالطلبة والتجار والعمال بعد حصول اليابان على امتياز اقليم شاندونغ؛ تنفيذا لشروط معاهدة فرساي بعد الحرب العظمى، واعتبر ذلك انتهاكا للسيادة الصينية، وتم إيفاد ماو إلى إقليم هونان لحضور الاجتماع التأسيسي للحزب الشيوعي الصيني عام 1921 في شنغهاي، وفي عام 1923 طلبت المنظمة الشيوعية الدولية (الكومنترن) من شيوعيي الصين التحالف مع الحزب القومي (كومنتانغ)، بزعامة صن يات صن، الذي قام بتوزيع أراضي كبار الملاك على الفلاحين، وانتقل ماو الى شانغهاي عام 1924، وتولى قيادة الكومنتانغ، لكنه عاد الى هونان لتنظيم احتجاجات الفلاحين، وضاق عليه الخناق ففر الى كانتون؛ مقر قيادة صن يات صن، الذي توفي فجأة، وتولى تشيانغ كاي تشك قيادة الكومنتانغ عام 1925، فطرد الشيوعيين من التحالف، وانفرط عقد القوميين والشيوعيين في 1927، ولجأ الشيوعيون للريف. وذلك ساعد على رواج نظرية ماو في عدم قصر الانخراط في الثورة على العمال، وكسب الفلاحين لصفوفها.
وشكل ماو مع مجموعة من فلاحي هونان وآخرين حكومة على النسق السوفييتي في عام 1927، ونظم مجموعة من المقاتلين؛ كنواة للجيش الاحمر، الذي هزم القوميين بعد 22 عاما، وطاردهم حتى تايوان. وفر الشيوعيون عام 1934 من هجوم تشيانغ في جيانجزي، وبدأت «المسيرة الكبرى» الشهيرة. وعلى طول ستة آلاف ميل من التراجع، لم ينج سوى 10٪ من المقاتلين الذين بدأوا بثمانين الف مقاتل، وكان ماو قد تزوج من ابنة معلمه، وقد نفذ فيها الكومنتانغ حكم الإعدام عام 1930، وتزوج ماو بفتاة أخرى عام 1928، وانجب منها خمسة اطفال وطلقها عام 1937، واقترن بالممثلة تشيانغ تشينغ، ولعبت دورا رئيسيا في الثورة الثقافية.
وعلى مدى عشر سنوات تحولت يانان إلى معقل للمقاتلين، وأضحى ماو زعيم لا يُنازع، وفي تلك الفترة وضع ماو ورفاقه الأسس التي بُنِيت عليها جمهورية الصين الشعبية فيما بعد، والتف حوله الفلاحون، الذين وُزعت عليهم الأراضي، ومن وقتها شق ماو لنفسه طريقا جديدا رآه مناسبا للصين، ومعبرا عن طموح القلاحين. وتجددت الحرب الأهلية بعد عام من جلاء اليابانيين، وانتهت بهزيمة القوميين عام 1949، وأصبح ماو تسي تونغ رئيسا للحزب الشيوعي الصيني، ورئيسا لجمهورية الصين الشعبية الوليدة، ورئيسا للجنة العسكرية التي قادت جيش التحرير الشعبي.
وأقام ماو التعاونيات الزراعية، وبسط مظلة الخدمات التعليمية والصحية على البلاد، ولم تحقق مبادرته «القفزة للإمام» عام 1958 هدفها، وفشلت في اواسط ستينات القرن الماضي. وانسحب ماو من المواقع التنفيذية، وظل رئيسا للحزب حتى وفاته، ولما تراخى معاونوه؛ امثال ليو شاو كي، ودنغ زياو بنغ في 1966؛ أعلن الثورة الثقافية؛ مستغلا غضب الطلاب، الذين التحقوا وقتها بالحرس الاحمر، وعمت لاضطرابات وتدخل الجيش عام 1967، وكان وزير الدفاع وقائد الجيش لين بياو حليفه وقتها، ورشحه ماو خلفا له عام 1969.
لكن صعود شواين لاي واتفاقه مع ماو على أن الخلاف مع الاتحاد السوفييتي يقتضي انفتاحا على امريكا لم يكن مقبولا من لين. وتحطمت طائرته عام 1971 أثناء هروبه بعد اتهامه بمحاولة اغتيال ماو. وكسب البراغماتيون بقيادة دنج زياو بنغ الجولة بعد الثورة الثقافية، وتفوق عليهم المتشددون عقب وفاة شواين لاي في 1976. واختار ماو هوا جو فنغ خلفا له. وبعد موت ماو بشهر قام هوا باعتقال المتشددين وفي مقدمتهم «عصابة الاربعة»؛ زانج شون كياو، ويانج هونج وين، وياو ون يوان، وتشيانغ تشينع (زوجة ماو).
وأعتقد أن اكتمال الصورة التي كشفتها جائحة فيروس كورونا المستجد عن الصين تقتضي التعرض لمواقف الأقليات الدينية والعرقية، ومنها موقف مسلمي الصين، على أمل أن تسنح الفرصة لذلك!.
محمد عبدالحكم دياب
القدس العربي