كان من المفترض أن ترتفع أسعار النفط خلال هذا العام، وكان المتوقع أن تزيد دول أوبك+ الإنتاج لمقابلة الطلب المتصاعد على النفط، بعد أن خفضته في العام الماضي، إلا أن الانتشار العالمي لفيروس كورونا قلب الأمور رأساً على عقب، فانهار الطلب على النفط، وصاحب ذلك انهيار في أسعاره. وعادة ما تستفيد الدول المستهكلة من انهيار الأسعار، بينما تعاني الدول المنتجة، إلا أن ما يميز فترة كورونا عن غيرها من فترات الأسعار المنخفضة أنه حتى الدول المستهلكة لم تستفد كثيراً من انخفاض الأسعار بسبب انخفاض الأنشطة الاقتصادية.
نستعرض اليوم آثار انخفاض أسعار النفط في الدول المنتجة للنفط بناء على البيانات التاريخية لفترات انخفاض الأسعار، والتي تشمل فترة منتضف الثمانينيات، وعامي 1998- 1999 وعامي 2015-2016. وعلى الرغم من اختلاف العوامل التي أدت إلى انخفاض الأسعار في هذه الفترات، فإن النتائج كانت نفسها، لهذا يمكن القول إن الماضي هنا يدلنا على المستقبل، ويخبرنا بما يحصل حالياً.
وقبل الخوض في التفاصيل، لا بدّ من ذكر أمرين:
1- إن آثار كورونا العالمية محت آثار تخفيض أرامكو للأسعار في 7 مارس (آذار) بعد أن رفضت موسكو تخفيض الإنتاج في اجتماع (أوبك بلس) في اليوم السابق له، كما محت آثار زيادة الرياض للإنتاج. بعبارة أخرى، أسعار النفط كانت ستنخفض إلى ما انخفضت إليه، سواء خفّضت أرامكو الأسعار وزادت الإنتاج أو لا. ما فعلته أرامكو سرّع الهبوط في الأسعار، ولكنها كانت ستهبط سابقاً أو لاحقاً إلى المستويات التي هبطت إليها. كما أن وصول الأسعار إلى السالب في 20 أبريل (نيسان) الماضي لاعلاقة له بأي دولة منتجة، حيث إنه مشكلة أميركية بحتة.
2- المقصود بأسعار النفط المنخفضة هو الأسعار التي توقف الاستثمار اللازم للصناعة لمقابلة نمو الطلب المستقبلي على النفط من جهة، والتعويض عن معدلات النضوب من جهة أخرى. وهي الأسعار التي تعكس خللاً في السوق نتيجة قرارات خاطئة أو عوامل خارجية مثل الأزمات المالية أو غير المالية، مثل جائحة كورونا. وهذا الانخفاض لا يتضمن الانخفاض الناتج عن انخفاض التكاليف والتطور التكنولوجي.
الآثار السلبية لانخفاض أسعار النفط في الدول المنتجة
تشير البيانات التاريخية من فترات الأسعار المنخفضة إلى وجود خمسة آثار رئيسة لانخفاض أسعار النفط في الدول المنتجة. وعلى الرغم من وجود آثار كثيرة غيرها، فإن أغلب هذه الآثار هو نتيجة لأخد هذه الأمور الأربعة أو مجموعة منها.
– زيادة معدلات نضوب الاحتياطيات النفطية:
نتج عن كل فترات انخفاض أسعار النفط هبوط احتياطيات النفط والغاز نتيجة زيادة معدلات النضوب، وذلك نتيجة عاملين، الأول انخفاض معدلات الاستثمار إلى مستويات غير كافية للتعويض عن معدلات النضوب، والثاني قيام الدول المنتجة بزيادة الإنتاج في محاولة لزيادة الإيرادات في ظل الأسعار المنخفضة.
– زيادة الفرق بين دخول الدول المنتجة والدول المستهلكة:
تستفيد الدول المستهلكة بشكل كبير من انخفاض أسعار النفط، حيث تنخفض فاتورة وارداتها النفطية، وترتفع قوتها الشرائية، وتنتعش اقتصاداتها. أما الدول النفطية، فتنخفض إيراداتها، وينخفض دخلها، وتزداد فقراً، بخاصة في الدول كثيفة السكان، مثل إيران وإندونيسيا والبرازيل والمكسيك ونيجيريا. وتشير البيانات إلى أن أكثر الفترات ازدهاراً في الدول الصناعية كانت في الفترات التي كانت تعاني فيها دول أوبك بشكل كبير من انخفاض دخولها بسبب انخفاض أسعار النفط.
– فرض رسوم جمركية إضافية على واردات النفط:
مع انهيار أسعار النفط في منتصف الثمانينيات، قامت الدول المستهلكة للنفط، بخاصة الأوروبية منها، بفرض ضرائب عالية على المشتقات النفطية فيها. وزادت هذه الضرائب مع الزمن لدرجة أن عائدات هذه الحكومات من الضرائب على النفط أعلى من عائدات حكومات الدول النفطية من بيع نفطها. ومع زيادة قوة الأحزاب والحركات البيئية، قامت هذه الفئات بالمطالبة بزيادة الضرائب على المنتجات النفطية كلما انخفضت أسعار النفط خوفاً من التأثير السلبي لأسعار النفط على برامحها البيئية، والتي تتضمن مصادر طاقة بديلة، مثل الطاقة الشمسية والرياح. وكان أول ما قامت به الحكومة الهندية بعد انخفاض الأسعار في مارس هو زيادة الضرائب على المشتقات النفطية.
زيادة الضرائب تشكل مشكلة كبيرة بالنسبة إلى الدول النفطية، لأنها تحدّ من أثر انخفاض أسعار النفط في نمو الطلب عليه.
– الصعوبات الاقتصادية:
كلنا يعرف أن الدول النفطية تعتمد بشكل كبير على إيرادات النفط، وأن ارتفاع الإيرادات يعني ازدهار الاقتصاد، وانخفاض الإيرادات يعني مشاكل اقتصادية متعددة. وتبيّن البيانات التاريخية أنه ينتج عن هبوط أسعار النفط انخفاض الإيرادات وعجز في الميزانيات الحكومية وتخفيض الإنفاق على البرامج الاجتماعية والمشاريع الأخرى التي تعتبر هامة للتنمية الاقتصادية. كما أن هذه الآثار الاقتصادية ظهرت في كل مرة انخفضت فيها الأسعار، الأمر الذي يعني أن اعتماد اقتصادات هذه الدول على النفط لم يتغير كثيراً مع مرور الزمن، وأنها تحصل في كل الدول النفطية بما في ذلك دول نفطية متقدمة وغنية مثل بريطانيا والنرويج. ونتج عن هذا الانخفاض زيادة البطالة وزيادة الضرائب وانخفاض الإعانات. بالإضافة إلى ذلك فإنه يمكن تحديد ثماني نتائج أخرى لانخفاض أسعار النفط، هي:
1- انخفاض الإيرادات:
مع انخفاض أسعار النفط تلجأ الدول النفطية إلى خفض الإنتاج، فتنخفض الإيرادات بشكل كبير. وإذا لم تغير الإنتاج أو زادته فإن ذلك يسهم في إبقاء الإيرادات أقل لفترة أطول. ويؤدي انخفاض الإيرادات إلى تبني الحكومات لإجراءات تقشفية عديدة. وتشير البيانات والأخبار عن فترات انخفاض الأسعار الماضية إلى أن إيرادات بعض الدول انخفضت إلى درجة أنها لم تتمكن من دفع رواتب الموظفين الحكوميين، مثلما حصل في ليبيا وبعض إمارات دول الخليج، ويتوقع أن يحصل في بعض الدول الآن، مثل العراق وإيران ونيجيريا وكذلك دول من أميركا اللاتينية. و قد مكّنت الأرصدة التي كونتها بعض دول أوبك في الماضي من تلافي أزمات ماضية، ولكن الأمور تزداد صعوبة مع مرر الزمن.
2- عجز الموازنات العامة:
عانت غالبية الدول النفطية من عجز في موازناتها في كل مرة انخفضت فيها أسعار النفط. و حتى الدول الغنية التي لا تعتمد على النفط كمصدر أساسي للدخل عانت من عجز في ميزانياتها، مثل بريطانيا والنرويج. وهذا ما نراه الآن في الدول النفطية كافة. ولعجز الموازنات انعكاسات عدة تتعلق بالاقتراض وأسعار الفائدة والتصنيف الائتماني.
3- تخفيض الموازنات والاستثمارات وإلغاء مشاريع تنموية
تشير البيانات التاريخية إلى أن كل الدول النفطية قامت بتقليص موازناتها وترشيد الإنفاق مع انخفاض أسعار النفط. كما خفّضت موازنات بعض المشاريع، وألغت البعض الآخر. وتشير البيانات إلى أن بعض الدول النفطية خفّضت موازنتها مرات عدة في نفس العام مع استمرار الأسعار المنخفضة، الأمر الذي أثّر سلباً في قطاع التعليم والصحة. كما تم تأجيل أو إلغاء العديد من المشاريع التنموية التي تتعلق بالطرق والمواصلات والبنية التحتية، بما في ذلك المصافي ومصانع البتروكيماويات، كما انخفض الإنفاق العسكري. كما قامت بعض الدول بتخفيض تمثيلها الدبلوماسي والقنصلي حول العالم لتخفيض الإنفاق.
4- زيادة الديون الحكومية:
أدى انخفاض أسعار النفط إلى انخفاض الإيرادات الحكومية، ما أدى بدوره إلى قيام الحكومات بالاستدانة من مصادر محلية وخارجية. وقد ظهرت المشكلة بشكل أكبر في الدول النفطية الفقيرة التي لها ديون كبيرة، حيث إنها لم تستطع أن تردّ هذه الديون أو تدفع حتى فوائدها. وتشير البيانات إلى قيام عدد من الدول بإعادة جدولة ديونها، بينما قامت دول أخرى بالاستدانة من الأسواق المحلية والعالمية. وهذا ما نراه الآن أيضاً.
5- زيادة عجز ميزان المدفوعات:
ميزان المدفوعات هو الميزان الذي يستخدم لقياس التجارة الخارجية. وتعاني الدولة من عجز في ميزان المدفوعات إذا تجاوزت قيمة الواردات قيمة الصادرات. وبما أن غالبية الدول النفطية تعتمد على النفط في صادراتها وتستورد أغلب ما تحتاجه، فإن انخفاض أسعار النفط سيؤدي إلى انخفاض قيمة الصادرات وحصول عجز في ميزان المدفوعات، أو زيادة العجز إذا كان العجز موجوداً أصلاً. وتشير البيانات التاريخية إلى أن كل الدول النفطية عانت من عجز في ميزان المدفوعات مع انخفاض أسعار النفط، وأن الأسعار المنخفضة أسهمت في زيادة العجز في الدول التي كانت تعاني من عجز قبل انخفاض الأسعار.
6- انخفاض معدلات النمو الاقتصادي:
أدى انخفاض أسعار النفط في كل فترات انخفاض الأسعار إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي في الدول النفطية. وتشير بيانات الدول المصدرة للنفط إلى أن هناك علاقة طردية بين أسعار النفط والنمو الاقتصادي فيها، حيث إن ارتفاع أسعار النفط يزيد النمو الاقتصادي، في الوقت الذي يؤدي انخفاض أسعار النفط إلى انخفاض النمو الاقتصادي. وتشير البيانات إلى أن انخفاض أسعار النفط أسهم في بعض الفترات في إيجاد حالات من الركود الاقتصادي، حيث أصبحت معدلات النمو الاقتصادي سالبة.
7- تخفيض قيمة العملات المحلية:
مع انخفاض أسعار النفط وتدهور الإيرادات وتباطؤ النمو الاقتصادي، وجدت الدول النفطية نفسها مضطرة إلى تخفيض قيمة عملاتها أو الدفاع عنها لبقاء سعرها ثابتاً مقابل الدولار إذا كانت مرتبطة به. ففي الماضي قامت مؤسسة النقد السعودية مرات عدة بعمليات شراء وبيع ضخمة للدفاع عن قيمة الريال الذي تعرّض لضغوط تخفيض قوية من المضاربين. إلا أن دولاً قامت بتخفيض عملتها، وأخرى بتعويمها. أما بالنسبة إلى العملات المعومة، فإنها تخفض عادة مع انخفاض أسعار النفط. وشهد الروبل الروسي تخفيضاً مع كل انخفاض في أسعار النفط، إلا أن روسيا من الدول القليلة جداً التي تستفيد نسبياً من تخفيض عملتها، لأن ذلك يخفّض إنتاج النفط فيها.
8- الاحتجاجات في الدول النفطية الفقيرة:
تشير البيانات التاريخية إلى أنه على عكس ما يعتقد الناس، فإن القلاقل السياسية الكبرى، التي تؤدي إلى ثورات أو تغيير حكومي، كانت دائماً مرتبطة بأسعار النفط المرتفعةـ وليس المنخفضة. إلا أنه عادة ما يصاحب انخفاض أسعار النفط احتجاجات شعبية بسبب إجراءت التقشف الحكومية، التي تتضمن غالباً تخفيض إعانات السلع الأساسية وزيادة الضرائب. وعادة ما تتفاقم هذه الاحتجاجات إذا زادت معدلات البطالة والتضخم في الوقت نفسه. وقد شهد العديد من الدول النفطية احتجاجات واسعة أثناء فترات انخفاض أسعار النفط، إلا أن الملاحظ أن أغلب هذه الاحتجاجات كان في الدول النفطية الفقيرة، بخاصة عندما لم تستطع الحكومة دفع أجور موظفيها.
خلاصة القول إن لانخفاض أسعار النفط نتائج سلبية كثيرة لها انعكاسات اقتصادية وسياسية واجتماعية، وتكرار هذه النتائج السلبية مع كل انخفاض لأسعار النفط يشير إلى أنه يجب تنويع مصادر الدخل في الدول النفطية، إلا أن ما حصل حتى الآن إما كان خاطئاً أو غير كافٍ، وقد تكمن أمور التنمية والتنويع في العنصر البشري، وليس في تنويع الصناعات أفقياً، أو في جذب الاستثمارات الأجنبية.
أنس بن فيصل حجي
اندبندت عربي